جوان الكردي
في خضم التحديات الداخلية الصعبة والخارجية الوجودية التي يواجهها الأردن، أطلق جلالة الملك أخيرا عبارة تحمل في طياتها رسالة قوية ومعبرة، بقوله: “مش عيب عليهم؟”.
هذه العبارة جاءت في سياق استنكار الملك تصرفات بعض الأفراد الذين يتلقون توجيهات وأوامر من الخارج، مما يعكس قلق جلالته حول أهمية الحفاظ على مصالح الأردن العليا وبخاصة في هذه الأوقات الحرجة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يلجأ بعض الأفراد إلى تلقي التعليمات من الخارج، وهل هو ضعف في الولاء والانتماء أم أن هناك عوامل أعمق تدفع بعضهم إلى البحث عن دعم خارجي أكان ذلك سياسيا أو اقتصاديا.
الواقع أن الأمر يعود إلى مجموعة من الأسباب؛ من بينها الخلل في توزيع الفرص والموارد والشعور بالتهميش وغياب الثقة بالمؤسسات الرسمية، فعندما يجد المواطن نفسه خارج حسابات الدولة واهتماماتها، بلا فرصة عمل ولا قدرة على تحقيق حياة كريمة، يصبح أكثر عرضة للانجراف وراء جهات تسعى لاستغلال ظروفه لخدمة أجنداتها الخاصة.
وحتى لا نضخّم الأمور ونلقي اللوم على الآخر، أيّاً كان، فيجب الاعتراف بأن الأمر لا يقصُر على هؤلاء التابعين لمن يتربص ببلدنا الدوائر..
وعلينا أن نقر بأن الواسطة والمحسوبية والجهوية والمناطقية و”النفس الأمّارة بالسوء” تطرح ثمارها العفنة التي يتغلغل عفنها ليتسربل في أوساط المجتمع كافة.
بعض الجهات الخارجية تستغل نقاط الضعف هذه وتعمل على استقطاب أفراد أو مجموعات داخل المجتمع الأردني بهدف التأثير في القرار السياسي أو خلق حالة من عدم الاستقرار أو حتى زعزعة الثقة في الدولة ومؤسساتها.
وهنا يأتي دور الدولة، والحكومة بخاصة، ليس فقط في معالجة الأسباب الحقيقية التي تجعل مثل هؤلاء الأشخاص قابلين للتأثر بهذه الأجندات، وإنما بفعل الأمر الرشيد الملقى على عاتقها وهو خدمة الناس وليس الاستعلاء عليهم.
لا يمكن الحديث عن ضرورة تقوية الجبهة الداخلية بدون التطرق إلى أزمة الثقة بين الحكومة والشعب، وهي أزمة عميقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها.
هذه الأزمة لم تأتِ من فراغ، وإنما هي نتيجة تراكمات طويلة من السياسات الحكومية التي لم تستطع تحقيق التنمية المرجوة إضافة إلى التهاون والتفاوت في تطبيق القانون وضعف العدالة الاجتماعية والتعامل الرسمي مع القضايا الوطنية بروح بيروقراطية جامدة أو بعدم مسؤولية.
إذا كانت الدولة تريد فعلا سد الثغرات التي يستغلها أصحاب الأجندات الخارجية، فعليها البدء بإصلاح العلاقة مع الشعب، وهذا لا يكون عبر الخطابات والشعارات وإنما عبر إجراءات حقيقية تعيد الثقة للمواطن.
يجب أن يشعر الأردني أن دولته تقف معه وتبذل أقصى جهدها لتوفر له سبل العيش الكريم وتستمع إلى صوته وتسعى لتحقق العدالة بين جميع فئات المجتمع.
ضرورة تمتين الجبهة الداخلية ليست مجرد أحاديث تُجترّ، ولا يكون فقط بتكرار هذه الجملة في الخطابات الرسمية، وإنما يجب أن يتحول هذا التمتين إلى برنامج عمل حقيقي يتضمن إصلاحات جوهرية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ففي المجال السياسي لا يمكن الحديث عن تمتين الجبهة الداخلية فيما هناك تضييق على الحريات العامة والصحفية والسياسية أو حين يشعر المواطن بالخوف من التعبير عن رأيه. لذا فإن إطلاق الحريات العامة وتعديل القوانين السالبة لها وإعطاء دور حقيقي للأحزاب السياسية والمجتمع المدني يجب أن يكون أولوية، وليس من باب المنّة.
كما أن تمكين الشباب والمرأة يجب أن يكون فعليا وليس مجرد شعارات يتم تكرارها في المؤتمرات والندوات والخطابات بدون نتائج ملموسة.
أما في المجال الاقتصادي فإن تحقيق العدالة في توزيع الثروات والفرص بعدالة وتوفير فرص عمل حقيقية ومحاربة الفساد بجدية هي خطوات أساسية، فلا يمكن أن يشعر المواطن بالانتماء لوطنه إذا كانت الخدمات الأساسية التي يحصل عليها متدنية أو غير كافية.
ومن الضروري الآن التوقف عن تكرار ذات السياسات الاقتصادية التي أثبتت فشلها على مدى عقود.
والتوقف كذلك عن تبني السياسات الاقتصادية الـ”نيوليبرالية” التي هي ببساطة تجعل المواطن نهبا لتوحش رأس المال، فيما تقف الدولة مكتوفة الأيدي، بل وأكثر من ذلك تحمي المستفيدين من هذه السياسات والمتكسبين والمتنفعين منها على حساب إفقار الشعب وتجويعه.
كما أن تحقيق الأمن الاجتماعي وتوفير حياة كريمة للمواطن هو الضمانة الحقيقية لعدم وقوع أي فرد ضحية للأجندات الخارجية.
من الطبيعي وجود أطراف في أي دولة تعمل لمصالح شخصية أو تستنفع بخدمة أجندات خارجية، لكن المسؤولية الأولى في مواجهة هؤلاء تقع على عاتق الدولة نفسها، فلا يمكن مواجهة هؤلاء فقط عبر الإجراءات الأمنية وإينما عبر إيجاد بيئة وطنية صحية لا تسمح لهم بالعمل والتأثير.
وهذا يتأتى من خلال تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي بحيث يشعر المواطن بالأمان في حياته ولا يحتاج إلى البحث عن مصدر خارجي للدعم، إضافة إلى تعزيز الشفافية في عمل مؤسسات الدولة كافة.
فلا يمكن مواجهة “الطابور الخامس” فيما هناك غموض في القرارات أو في إدارة المال العام أو في التعامل مع القضايا الوطنية الكبرى، أو إضعاف الإعلام المهني وإقصاؤه.
وغلق الطريق على أصحاب المصالح الضيقة الذين يتلاعبون بالقرارات لتحقيق مكاسب شخصية هو جزء أساسي من الحل لأن هؤلاء يساهمون في إضعاف الجبهة الداخلية أكثر من “الخارج”.
لا يمكن إنكار أن الشعب يتحمل جزءا من المسؤولية في الدفاع عن وطنه، لكن المسؤولية الأولى تبقى على الحكومة وأذرعها وسائر مراكز القرار..
فالحكومة هي من تضع السياسات وتنفذها وتدير الاقتصاد وتحدد طريقة التعامل مع الأزمات، وبالتالي فإن أي اختلال في هذه المنظومة تتحمل هي مسؤوليته.
إذا أرادت الحكومة أن تستعيد ثقة الشعب وأن تسد الثغرات بوجه المتربصين، فعليها أن تشرع بالإصلاح الفعلي وأن تكفّ عن الاستخفاف بعقول الناس، وأن تدرك أن الأردنيين لم يعودوا يقتنعون بمعسول الكلام بل ينتظرون أفعالا واضحة وإجراءات ملموسة وقرارات تعكس إرادة حقيقية في الإصلاح.
عبارة “مش عيب عليهم؟” التي قالها جلالة الملك لم تكن مجرد جملة عابرة وإنما هي رسالة عميقة لكل من يعمل ضد مصلحة الأردن بوعي أو دون وعي..
لكنها أيضا رسالة للحكومة، وعليها أن تلتقطها وتستوعبها جيداً، لتدرك أن بناء الجبهة الداخلية لا يكون بالتمنيات وإنما بالإصلاح الحقيقي الذي يعزز ثقة المواطن بدولته..
فالأردن يستحق أن يكون وطنا قويا مستقرا يعيش فيه أبناؤه بكرامة ولا يحتاج أحد فيه إلى البحث عن بدائل خارجية لتحقيق طموحاته.