أ.د خليف مصطفى غرايبة
المجالس البلدية وظاهرة الباثولوجيا الحضرية
أ.د خليف مصطفى غرايبة/ أستاذ جغرافية المدن والسكان
قد يبتئس المرء أو يكتئب حينما يتكلّم عن مدينة زارها أو سكنها أو مرّ بها مروراً عابراً ، بل قد ينفعل قائلاً: هذه مدينة قذرة وخدماتها سيّئة وسكانها مُتخلّفون وأصحاب مشاكل، فهي مليئة بالعنف والجرائم والانحرافات، ولا تأمَنْ على نفسك أن تتجوّل في بعض شوارعها أو تدخل إلى بعض أحيائها، وقد ينفعل الشخص نفسه ( من باب المقارنة) ليقول : أمّا مدينة كذا يا سلام عليها، مدينة نظيفة وجميلة بسكّانها وأسواقها وخدماتها وشوارعها ونظام المرور فيها ، فهي مدينة أمن وأمان وتبعث في النفس البهجة والسرور والاطمئنان .
إذاً … ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا التّفاوت الكبير بين مدينة وأخرى ؟!! في الواقع هناك أسباب كثيرة وراء ذلك، يمكن أن نلمح بعضها من خلال ما يقوله ويبر (Weber) ، حيث يقول : “إنّه لا الجرائم التي ترتكب في شوارع المدينة، ولا الفقر أو البطالة ولا الأُسَر المُحطّمة أو الإدمان، ولا الأمراض العقلية أو انحراف الأحداث، ولا أي مظهر من مظاهر هذه الأمراض والعِلَل يُمكن أن نجد أسبابه أو علاجه في المدينة نفسها بشكل متشابه بين المدن، ذلك أنّه لا يُمكننا أن نخترع علاجاً محليّاً لظروف جذورها ليست محليّة.” يُستدل من ذلك أنّ لكل مدينة خصوصية في مشاكلها كما أنّ الكثير من هذه المشاكل تُنْقل إلى المدينة من خارجها، وهذا يعني أنّ البيئة الحضرية (Urban Ecology) للمدينة هي من أهمّ العوامل وراء أمراضها ، ولعلّ أبلغ ما يذهب إليه القائلون بأمراض المدن أو ‘ الباثولوجيا الحضرية Urban Pathology ‘ هو أنّ العديد من المدن الكبيرة تُبدي مظاهر النزع الأخير( تبدو متهرئة كئيبة) وكأنّها على وشك السّقوط أو الاضمحلال، ويحاولون التشبيه بين هذه الظاهرة لبعض المدن وما حدث عند سُقوط روما ، إذ يقول المؤرّخ إدوارد جيبون :” إن سقوط روما قبل حوالي 1500 سنة كان نتيجة طبيعية وضمنيّة لمدى ما بلغته من عظمة واتّساع وإهمال وكثرة مشاكل” ، إذاً … حجم المدينة وكيفية إدارتها ونوع ظهيرها (hinter land ) ومدى اتّساعه هي من العوامل إلي تُشكّل البيئة الحضرية لها.
وتتشابه المدن العربية بأنّ معظمها من صنف المدن المتوسّطة والمدن الصغيرة في حجومها( باستثناء العواصم السياسية وعواصم الأقاليم)، ومن هنا تأتي أهميّة المجالس البلدية، إذ على عاتقها تقع مسؤولية توجيه نمو هذه المدن وتحديد أنسب المحاور لهذا النمو، لذا يجب أن يُراعى في نموّها كل احتمالات المستقبل .
من المفروض أن لا تكون البلديات أماكن للزعامة والوجاهة على الإطلاق، أو مجرد إدارات مسؤوليتها تقديم وتوفير الخدمات فقط، وإنّما مجالس حضاريّة تهتم بنبض الشارع الذي تُدير، لأنّها القيّمة على منبع حضارة الإنسان، وهي المسئولة تبعاً لذلك عن إبقاء هذا النّبع فيّاضاً مُتدفّقا، التوجّه الرئيسي لها تنمية المكان الذي تديره بشكل أمثل، وبالشكل الذي يوفّر أعلى نسبة من الراحة النفسية للسكان وأعلى درجة رضا عن الخدمات المُقدّمة لهم ، وبأقلّ نسبة من الباثولوجيا الحضريّة( أمراض المدن).
إنّ الدور الذي يجب أن تنهض به المجالس البلدية يُلقي عليها مسؤولية ضخمة ويجب أن تكون هذه المجالس على مستوى المسؤولية والكفاءة وبُعد النظر بحسٍّ حضاريٍ مُرهف، وأن تكون هذه المجالس قادرة على التخطيط لا للأبنية والشوارع والمُنشآت بل للإنسان الذي يستعمل هذه المُقدّرات، فقد آن الأوان لأن ننسج الخدمات حول السكان ونُحسّن نوعية الحياةQuality of Life لمجتمعنا العربي وخاصّة في المدن التي تُشكّل مراكز الثقل السكاني، قبل أن تتورّم هذه المدن ( المتوسّطة والصغيرة) وتتوطّن في أحيائها أمراض المدن التي نسمع عنها ويصبح أمر علاجها مُكلفاً، فإذا كانت قاعدة “ الوقاية خير من العلاج “ قاعدة مهمّة في الأمراض الجسميّة فإنّها- ومن بابٍ أولى- تصبح قاعدة أهمّ في الأمراض الاجتماعية للمدن.
المجالس البلدية أيّها السّادة مطالبة بتنقية أجواء المدن من الأمراض الاجتماعية الناتجة عن أسبابٍ داخلية تكمن في ذات المدينة أو أسباب خارجية طارئة، وهي مطالبة بأن تهتم بالمعنى (المغزى) والمبنى لهذه المدن، كما أنّها مطالبة أن تهتم باستعمالات ارض المدينةLand Use وتركيبه الداخليInternal Structure دون إهمال لبقعةٍ داخل الحيّز الحضري (المُخطط التنظيمي) ومهما صغرت هذه البقعة، إذ منها يُمكن أن يُداهم المدينة مرض ما، إذاً على المجالس البلدية أن تعي الهدف الحضاري التي جاءت أو انتُخِبت من أجله، بمعنى أن ينصبّ اهتمامها على الإنسان فهو أثمن ما في الوجود وأغلى ما نملك .
ولئن حمّلنا المجالس البلدية هذه المسؤولية الضخمة ، فإننا لا ننسى المسؤولية التي تعادلها في الضخامة على المواطنين من سكان هذه المدن، إذ على عاتقهم تقع – أوّلاً- مسؤولية فرز المجلس البلدي ( رئيساً وأعضاء)، وعليهم أن يكونوا بمستوى الفرز من جهة، وأن يكون سلوكهم وتعاملهم وانتمائهم حضاريا مع مجلسهم ومع مدينتهم من جهةٍ أخرى، وان يتبادلوا الحبّ ويتواصل مع مدينتهم التي يعيشون بها ( فهي بيتهم الكبير)، وتفعيلاً، وتعميقاً، وعلى عاتق المواطنين – ثانياً- المحافظة على نظافتها كحرصهم على بيوتهم، وفي المثل الصيني الذي يقول: “ لو قام كل شخصٍ في المدينة بتنظيف بيته وما حوله لنظفت المدينة مهما بلغ اتساعها“ حكمة واضحة في هذا المجال، وتطبيقاً لذلك تقع على المجالس البلدية مسؤولية أخيرة هي على درجة كبيرة من الأهمية وهي إشراك السكان في التخطيط وصُنع القرار، وهذا لن يتمّ إلاّ إذا تكامل وتناغم حرصنا على محبّة مدننا ووطننا الذي نعيش فيه مع حرصنا على نظافة المجلس البلدي الذي نفرز ونريد، باختيارنا للعقلية الحضارية التي تُجنّبنا شرور وويلات الباثولوجيا الحضرية التي نسمع عنها .