سامح المحاريق
انجاز : تساءل الزميل الأستاذ سمير الحياري على صفحته في موقع تويتر: أين علماء النفس ليعطونا تحليلًا عن ركاب تلفريك عجلون الذين مزقوا “فرش” مقاعد الكبائن وأقاموا دبكات وهم بين السماء والأرض وخدشوا نوافذ العربات والغرف الفضائية وكأنهم ينتقمون من عدو..!
ربما لا يحتاج الأمر إلى علماء النفس أو الاجتماع وحدهم فالمسألة متشعبة، ويمكن أن نستحضر مقولة تنسب إلى روبرت فيسك في محاولة لتفسير سبب نظافة بيوت العرب مقابل مظاهر عدم النظافة في شوارعهم، وهي أن العرب يشعرون بملكية منازلهم ولا يشعرون بملكية أوطانهم!
السبب في البداية يظهر مقنعاً، ولكنه ليس السبب الوحيد، ويمكن أنه لا يحمل أي صيغة انتقامية ذاتية، وأسباب نبذ هذه الفكرة منطقياً تقوم على عاملين مهمين، يتمثل في أن تركيبة الشعور بملكية الوطن متشابهة في جميع الدول العربية، الريعية والفقيرة، ومع ذلك، توجد دول عربية تظهر نظيفة ولامعة ونموذجية، دبي والدوحة والرياض، والنماذج المقابلة كثيرة، وليس ما يدعو لذكرها.
أما العامل الثاني، فيتعلق بأن المدن العربية كانت تحظى بجانب كبير من النظافة، القاهرة نفسها التي تتصدر بين مدن العالم الأكثر تلوثاً كانت مدينة نظيفة مليئة بالخضرة لفترة طويلة امتدت من النصف الثاني للقرن التاسع عشر ولغاية الستينيات من القرن العشرين، أما عمان فهي ما زالت من المدن النظيفة نسبياً، ولا يمكن الشكوى بأسلوب تفجعي في الأردن سوى من بعض المناطق التي بدأت تدخل الأردن إلى حواف العشوائية من غير أن تدخلها، وكأن الأردن هو الدولة العربية التي تبقى دائماً على الأرض الفاصلة بين نموذجين!
التأمل في فكرة مرحلة النظافة التي سادت في المدن العربية قبل الانزلاق إلى الفوضى نجد عاملين مهمين في المقابل، الأول، هو وجود مشروع للدولة، أي إدارة للأمل من خلال اختلاق غاية واضحة إلى حد ما تحدث حالة من التضافر بين الناس في المجتمع، ولذلك، كان نداء مثل (لا صوت يعلو على صوت المعركة) يمتد بأثره الجانبي والصغير في كل مكان، يكرس حالة من المسؤولية الجمعية، ربما كان التعبير عنها في أغنية عبقرية كتبها صلاح جاهين: واللي ح يبعد م الميدان….عمره ما ح يبان في الصورة، وكان طبيعياً أمام هدف واسع يقوم على تضافر عاطفي بأكثر مما هو عملي، أن يؤدي إلى انهيار شامل في المنظومة، ولذلك، بدأت المشروعات القديمة تتراجع من غير أن يظهر مشروع جديد يمتلك أفقاً واقعياً ومعقولاً وقابلاً للتحقيق، وتعريفات اجرائية مفهومة وممكنة.
العامل الثاني، يفسر نظافة مدن الخليج بصورة واضحة، وهو القدرة على إنفاذ القانون، وهي مسألة ربما تكون مرتبطة أو منفصلة مع سيادة القانون، ولنتحدث بصراحة، فالمواطن الأردني لا يشعر بأن أدوات إنفاذ القانون تستطيع أن تستهلك نفسها بأكثر مما هو قائم حالياً، بين محاربة الأنشطة الإرهابية والجرمية من الناحية الأمنية، والماراثون الطويل الذي يعانيه الكثير من القضاة أمام ملفات متراكمة تشكو هي الأخرى من مزاحمة القوانين العشائرية والتخوفات الاجتماعية الاحترازية وعدم وضوح بعض التفاصيل، بالاضافة إلى النظر من زاوية التكلفة في جهازين على قدر كبير من الأهمية مثل الأمن والقضاء.
المشروع في عجلون جميل، والأردنيون كانوا متعطشين لأصول سياحية تتناسب مع مستويات الدخل وإلى تجارب تجعلهم قريبين من الشعوب الأخرى، وضعاً في الاعتبار أن العوامل الجغرافية والطبيعية لإدارة مشاعر الضيق والسلبية في الأردن محدودة، فلا بحار واسعة ومتوفرة للجميع، ولا أنهار كبيرة، ولا ميادين واسعة، ولأن المشروع لم يقرأ جيداً بعض العوامل التي أصبحت مسيطرة في الدول العربية ذات المرافق المفتوحة بتكلفة معقولة فإنهم لم يضعوا إطار الغرامات المناسبة ولا المتابعة الجيدة من طرفهم.
لنستحضر مثلين، في مدينة مثل جنيف لا يوجد محصلين في القطارات، ويمكن أن تمر أسابيع من غير أن يسألك أي شخص عن تذكرتك ولا يوجد جهاز لقراءة التذكرة أصلاً ، ولكن الجميع يدفعون بصورة منضبطة، ولا توجد تقريباً أي ملامح خراب في مرافق المواصلات ، وفي مدينة مثل القاهرة، كان الجميع متخوفاً من تخريب القطارات الجديدة التي دخلت العمل ضمن خطة تطوير السكك الحديدية، وبالفعل حدثت عمليات التخريب!
يمكن أن نضيف جانباً من عدم الفهم بخصوص المسألة يحمله المواطنون حول أهمية السياحة، وأن مشروعاً مثل التلفريك بغض النظر عن مالكه أو ما سيجنيه من أموال، سيتحول مشروعه إلى جزء من الأصول السياحية، بمعنى أنه سيحتل مكاناً في الترويج السياحي للأردن وربما يشاهده طفل أوروبي أو خليجي فيكون عاملاً بسيطاً في قرار أسرته لقضاء العطلة في الأردن بدلاً من تركيا أو مصر مثلاً.
المهم، أن ندرك أن المواطنين يتحملون جزءاً من المسؤولية، والمجتمع ليس منزهاً عن أخطاء كبيرة يمكن أن تؤدي إلى مشكلات على جميع الأصعدة، فالشعب بتاريخه ومستقبله هو الذي يستحق أن يحترم وأن يحظى بحصانة موازية للوطن بشخصيته وهويته، أما المجتمع فهو مجرد صورة يمكن أن تحمل الكثير من الخلل، وما يحدث في تلفريك عجلون نموذج لنعرف أن المؤسسة بمعناها العام لا تكون دائماً أو بصورة آلية هي المسؤولة عن المشكلة.