الدكتورة دلال العنبتاوي
تشكل العتبات من غلاف وعنوان وإهداء البوابة الأولى للعبور إلى أي عمل إبداعي وفي هذه الرواية التي أستطيع أن أقول أنها جاءت محملة بالكثير من الذاكرة والبوح والشيء الكثير المثقل بدلالات السيرة الذاتية التي يرويها الراوي مخترقا فيها كل حواجز الذات وتهويماتها، فالغلاف ومنذ النظرة الأولى جاء معبرا عن مضمون الرواية قبل الدخول إليها وهذا يحسب للرواية، ويؤكد أن هناك تماه كبير بين كل الأقانيم الثلاث السابقة من: غلاف، وعنوان، وإهداء؛ فهي منذ الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة وعلى مدار (243) صفحة تدور في تلك المدارات، بل وتجتهد من خلال الراوي سعيد أن تأخذ القارئ إليها، ولعل أكثر ما جاء معبرا بحِرَفية عالية عما أراده الكاتب ومختزلا العتبتين السابقتين هو الأهداء الذي جاء محملا بدلالات عدة وآلام كثيرة. يقول الكاتب في الصفحة (5) وتحت عنوان إهداء: “إلى ذلك الطفل الذي يحتضر في داخلي والذي لا يزال يحيا على أرض الكويت”.
أجد في هذا الإهداء الواضح الصريح الذي على أرض الواقع في الرواية يتقارب ويتعالق كثيرا مع ما ذهب إليه الراوي وجاء كذلك معبرا عن مسيرة حياة الكاتب الحقيقية التي قضى نصفها أو أكثر في دولة الكويت كما تشير وتكشف سيرة حياته ذلك. ومن شدة وقع هذا الإهداء الذي رأيته مثقلا بالإيحاءات ورغبة الكاتب المعلنة في التعبير عنه صرح من خلاله بالمكان الأول الذي يحمله عنوان الرواية ( كويت: الكويت ) ثم يأتي التصدير مكملا وممعنا في الكشف عما يعتمل دواخل الكاتب من ألم وحب وتعلق ونستولوجيا واضحة لزمن ما كان يعيشه في ذاك المكان: الكويت، ففي الصفحة المباشرة والتي تحمل الرقم (7) بعد الصفحة التي سبقتها والتي كانت تحمل الرقم (5) بعد الإهداء يستشهد بالنص القرآني قوله تعالى في سورة المؤمنون: (قال كم لبثم في الأرض عدد سنين* قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين* قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون)، وينقلنا مباشرة إلى الصفحة (9) من خلال دخول غريب يبوح ويفضح بطريقة صريحة ما تمنى هو إخفاءه فتحت تنويه يقول : “هذا نص لاعلاقة له بالواقع وأي تشابه في الأحداث أو الأسماء فهو محض صدفة والصدفة خير من ألف ميعاد وعلى ميعاد حنا والفرح كنا…” طبعا وما تكمله الأغنية في الحقيقة أو ماسكت عنه الكاتب والذي كام يتمنى البوح به بدقة ووضوح هو: “وصرنا بعاد وعشنا ع الأمل عشنا…” ذاك المسكوت عنه هنا والذي تفضحه الرواية وفي كل صفحة من صفحاتها ال(243) صفحة.
فمنذ العنوان نجد أنها رواية مكانية بامتياز أبطالها الأمكنة التي مر بها الباص ( كويت/ بغداد / عمان ) وعندما نحدق في الغلاف كثيرأ نجد أن اللوحة شديدة الوضوح في جزئها العلوي لا يصعب على العين الوصول إليه والتقاط تلك الأمكنة التي مازالت للآن ماثلة على أرض الواقع أمامنا ولكل متلق منا علاقة ما تربطه بهذه الأمكنة سواء الكويت أو بغداد أو عمان، فهي عواصم لدول ذات حضور في المشهد السياسي والجغرافي العربي. وحين ننتقل إلى الجزء السفلي من اللوحة نرى باصا متوقفا في محطة أخيرة يحمل اللون الأخضر والبني بعمق خاص متوقف عند إشارة بعد عبوره المحطتين السابقتين الأولى كويت والثانية بغداد، وهما كما توضح اللوحة كانتا محطات بداية ثم تنحرف اللوحة إلى الميل تعبيرا عن العبور والتجاوز لتفضي الإشارة فيما بعد إلى الوصول والانتهاء والتوقف في المحطة الأخيرة عمان..
في الحقيقة أنَّ الرّواية قامت بتوظيف كلَّ تقنيات السّرد التي نعرفها كي تستطيعَ أن توصِلَ لنا بِجَلاءٍ ووضوحٍ الحيثيّات التي قامت عليها وما يريده الكاتب أن يوصله إلينا.
لقد تمتّعت رواية ( كويت بغداد عمّان) بشبكة واسعة من الأمكنة، توزعت على مساحة النّصِّ الرّوائيِّ، وقد سعى الكاتب بشكل حثيث للكشف عن العلاقة التي ربطت بين تلك الأماكن، وقام بذكر الكثير من تفاصيل تلك الأمكنة كالشّوارع والمقاهي والمدارس والفنادق والبيوت وغيرها، وجميعها شاركت في صنع الحدث.
في هذه القراءة سأتحدث عن المدينة كفضاء روائي:
معروف أنَّ المدن هي المجال المكانيُّ الأوسعُ في معظم الرّوايات، بل هي المسرح المفتوح الذي تتحرَّك على أرضه كلُّ الشّخصيَّاتِ وتدور في حيزه كل الأحداث، وهي فضاء عموميٌّ مُشاعٌ للجميع، يجمع الشّتات البشريَّ من كلِّ الأعراقِ والجنسيّات والمستويات الاجتماعيّةِ، وهي كذلك فضاء ضاجٌّ بالحركة والحياة معا. يقول الكاتب التركي (أورهان باموك) حول ارتباط الرواية بالمدينة، إن فنّ الرواية هو ابن المدينة بامتياز، نشأ فيها على أيدي أبناء الطبقة المتوسطة المتعلمة الذين أرادوا أن يقصوا حكاية الحياة في المدينة ويؤسسوا لما عاد يعرف الآن ب “سيرة مدينة”.
أن الكتابة الإبداعية الأدبية عن المدينة لها اتساع بارز ليس على نطاق العالم العربي فحسب، بل حتى على النطاق العالمي، ولعل أهمها تلك التي تتقاطع فيها سيرة الروائي مع سيرة المكان وهذا ماحدث مع الرواية التي بين أيدينا .
فالمدن الثلاث: كويت، بغداد، وعمان التي كانت حاضرة في هذه الرّوايةِ بكلِّ قوّةٍ وضوح، شكلت فضائها الواسع من خلال اهتمام الكاتب بتفاصيلها البسيطة وشوارعها وملامحها القويّة التي تُمَيِّزُها عن غيرها من كثير من عواصم العالم، فهي حاضرةٌ بكلِّ تناقضاتها.
وأستطيع الجزم هنا بأنَّ هذه الروايةٌ المدينيَّةٌ بامتياز، لم يكن همها أن تعالج إشكاليَّةَ التّمدُّنِ وإفرازاته، بل كان الهدف التعرف على أثر تلك المدن على سيرة ونفسية وعوالم الكاتب الداخلية والخارجية.
ولقد عبَّرَ الكاتب في هذه الرواية من خلال تناوُله حالة كل مدينة على حدا بشكل منفصل عما سواها من المدن؛ وفي الحقيقة أجد هنا مّا يدفعني إلى الإشارة إلى أنَّ محور أحداث هذه الرّواية كان ينحو في بعض الأحيان منحى السّيرةِ الذّاتيّةِ، لأنَّهُ يتحدّث عن فترة مهمّةٍ من حياة الكاتب ويتعالق معها ويتقارب منها على أرض الواقع كثيرا خاصة حين بدأ الحديث عن الكويت على لسان الرّاوي سعيد والتي جاءت محتلّةً العديدَ من صفحات الرّواية؛ فهي أولى المدن التي ظهرت في الرّواية، وقد أخذ الحديث عن مدينة الكويت في هذه الرواية نصيب الأسد ولاحظت كذلك أن بعض عناوين الفصول جاءت معبرة عن المكان المرتبط بمدينة الكويت منها: سفر التكوين : حولي / الأحد : النقرة / الإثنين: المنصورية / الثلاثاء: القادسية/ الأربعاء: حولي / السبت: الجابرية / أبراج الكويت / وأخيرا عمان. فمن حيث الكم أخذ الحديث عن الكويت مايقارب 118 صفحة أي ما يستحوذ على مانسبته 50% من الرواية. يبدأ الرّاوي الحديث عن الكويت في ص (31) على لسان البطل سعيد قائلا : “أنا سعيد حازم أحمد البحتري ولدت في الكويت في منطقة الشويخ في مستشفى الصباح “.
ويقول في صفحة (50) ذاكرا أماكن عدة مر بها في الكويت: “السلام على الفوز الذهبي للألبسة، وعلى مطحنة الخليلي، ومطحنة وادي الجوز، ومخبز الجمهورية العربية المتحدة، السلام على الإسكافي أبي داود…”، ويستمر بالسلام على أماكن عدة عاشها وشاهدها في الكويت.
نجدُ هنا أنَّ ملامح الكويت ملامحُ مدينةٍ قريبة من النّفس، يتعايش فيها كلُّ من قَدِمَ إليها، ويوضِّح الكاتب هنا على لسان الرّاوي مفاصل تلك المدينة، وأقسامها، ويؤكد أنها مدينة ودودة يتعايش الجميع بين جنباتها بكلِّ حُبٍّ.
وقد عبَّر الكاتب عن ذلك على لسان الرّاوي واصفاً شوارِعَها وراصداً حركةَ أهلِها، فها هو الرّاوي يتحدَّث عنها قائلاً في صفحة (59): “سرعان ما عبرنا شارع عبدالله علي المطوع لنخرج من النقرة وندخل منطقة القادسية عبرنا من حديقتها القريبة من جمعية القادسية التعاونية…الله على القادسية يا لها من منطقة جميلة بيوتها متميزة ومبانيها رائعة كثيرة الزرع والشجر حالها كحال معظم المناطق الكويتية الأخرى …”. ويقول في صفحة (103) واصفا ومؤرِّخاً لمعالم تلك المدينة التي أحبُّها ومازال تحت عنوان “أبراج الكويت” على لسان الرّاوي: “ركبنا في مصعد الأبراج…الكوفي شوب دائري الشكل يدور حول مركزه واجهته الخارجية الزجاجية تكشف بر الكويت وبحرها… أصبحنا على البر تماما فانكشفت أمام أعيننا منطقة دسمان وقصرها العامر مع هذه الإطلالة الخلابة …”
نجد هنا أن الرّاوي يتحدث عن الكويت متَّخِذا من مكانها على الحيّزِ الجغرافيِّ على الأرض مكاناً متميِّزاً، وراسماً كلَّ معالمها بعين المُحِبِّ المرتبط بالمكان.
ثم ينتقل الرّاوي في الفصل المُعَنْوَنِ بـ (الجمعة: الروضة) للحديث عن المرور ببغداد قائلا في صفحة (119): “الطريق إلى عمان طويلة لذلك قررنا المبيت ليلة واحدة في بغداد وبعدها نواصل المسير، وصلنا بغداد بحثنا عن شقة فندقية “، وتدور أحداث عدة في بغداد يأخذ الحدث أهمية أكبر من المدينة بغداد ذاتها.
وتستمر المدينة في رسم فضاء هذه الرواية حين يقول الراوي في صفحة (148): “خشعت الأصوات ولاهمس وخيم الصمت في السيارة بعد الحديث الطويل عن صورة الجيش العراقي المحفورة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، تواصل السيارة قطع الفيافي والقفار اقتربنا من الحدود الأردنية أدارت الوالدة (راديو) السيارة حتى تكسر حدة الصدمة التي أصابتنا من هول ما سمعناه ولتخترق حاجز الصمت الذي أطبق علينا جميعا قلبت الوالدة المحطات الأذاعية الواحدة تلو الأخرى: الواحدة تماما الساعة الآن في عمان إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية نحييكم مستمعينا الكرام ونقدم لحضراتكم موجزا لأهم الأنباء، وبعد الموجز صدحت سميرة توفيق بأغنية (يابو ردين)”، ثم ينتقل بنا الكاتب الى الفصل المعنون ب (الخيال) وأول ما يبتدأ به هذا الفصل هو عمان، وكأن الكاتب يريد أن يدخلنا منذ مدخل الفصل إلى فضاءات عمّان التي تدفع الراوي سعيد حين يصل إليها ويمكث فيها إلى كتابة رواية بعنوان (هنا الكويت).
إن البطل الرئيس في هذه الرواية هو مدينة الكويت إذ أخذت دور البطولة بامتياز بكل أماكنها، أما المدن الأخرى فكانت حدثا عابرا مر عليه الراوي السارد مرور الكرام واستفاد من ذاك المرور ليعمق حضور الكويت ووجودها على صعيده الشخصي أولا وعلى رفقيتيها المدينتين بغداد وعمّان اللتين لم تستطيعا أن تأخذا حيزا في عالمه إلا القليل القليل مقارنة مع الحضور البطل للكويت.
ولقد ظهرت في هذه الرواية المدينة كعنصر مكاني رئيسي، تدور أحداث الرواية فيه بكل سرد تفصيلي يعرض أماكن حقيقية داخل المدينة، ويوثق تاريخا واقعيا للفترة الزمنية التي دارت فيها الأحداث، وينقل الأدوار الاجتماعية والتفاعلات الثقافية للشخصيات.
وهكذا يتضح أن المدينة وتحديدا مدينة الكويت كان لها في هذه الرواية دور البطولة دون منازع.