د.حسام العتوم
المراقب للّقاءات الروسية-الأمريكية الرئاسية رفيعة المستوى الحديثة، لابد له وأن يلاحظ الفرق وسطها بين الماضي والحاضر، فهي اليوم تعقد و بإصرار أمريكي له علاقة مباشرة بالحرب الباردة وبكامل عمقها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.
وهي التي اشتركت بها أمريكا إلى جانب السوفييت والحلفاء لدحر النازية الألمانية الهتلرية، وهو الذي حصل فعلاً بعد قصفها لليابان بسلاحها النووي، وتخطيطها لاحقا لقصف السوفييت بمثله عام 1949، لولا معرفتها بامتلاكهم القنبلة النووية وقتها.
وما ساعد على إبقاء سعير الحرب الباردة ماثلاً حتى الساعة، هو حرص أمريكا بالتفوق من خلال قطبها الأوحد الذي شكلته مع أوروبا، وحلف (الناتو) العسكري، لمواجهة الاتحاد السوفيتي المنتصر في الحرب ذاتها وحلفه (وارسو)، ومن منطلق أنها لا تقبل بنصر لا يناسب مصالحها الاستراتيجية.
وطورت أمريكا عصفها الذهني صوب مواجهة النهوض الروسي العسكري والاقتصادي بعد الانهيار السوفيتي عبر حربها الباردة التي لا تريد لها أن تنتهي، ولكي تُبقي على روسيا الاتحادية تصنف من الدرجة الثانية عسكرياً حسب اعتقادها، ومتراجعة اقتصادياً، وأبقت على حجم التبادل التجاري بينهما محدوداً ومتواضعاً وعن قصدٍ وسبق إصرار، والذي هو الآن (19,8) مليار دولار فقط. ورفعت أمريكا وبوتيرة سريعة من حمى سباق التسلح مع روسيا تحديداً، وتطالب دوماً بعقد القمم الرئاسية في مناطق محايدة مثل (جنيف) و (ميونخ) و (نيويورك)، ولا تبادر باستضافة القيادة الروسية في (البيت الابيض) في واشنطن، ولا تشجع روسيا لدعوة القيادة الأمريكية إلى قصر (الكرملين) الرئاسي في موسكو.
والحق يجب أن يقال هنا، وهو بأن أمريكا لم تفلح بإحباط عزيمة الروس عسكرياً الحريصون كما أمريكا على إبقاء الخط الساخن مفتوحاً وفاعلاً بينهما، وهي – أي روسيا – العاملة على تطوير قدراتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية باستمرار لدرجة أصبحت فيها كما أمريكا فوق نووية، وفوق صوتية، وفضائية متطورة. وتعادل في قوة نارها وهي التي تعتمد على جيشها الأحمر وبحريتها فقط، وليس على تحالفات عسكرية خارجية، حلف (الناتو) مجتمعاً بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إن لم تتفوق عليه نوعاً وسراً، رغم فروقات ميزانية الدفاع بينهما لصالح (الناتو) بطبيعة الحال ( حسب وكالة أنباء أ.ش .أ) صرح وزير دفاع روسيا سيرجي شايغو عام 2019، بأن ميزانية دفاع أمريكا والتي هي آنذاك 750 مليار دولار تفوق ميزانية دفاع روسيا 16 مرة)، ونسجل هنا أيضا بأن ميزانية دفاع حلف (الناتو) وصلت إلى 400 مليار دولار. وروسيا الاتحادية الأكثر تمسكاً بالقانون الدولي، وتلجأ للتهدئة الدولية خاصة مع أمريكا، كلما ارتفعت ألسنة التصعيد باتجاه حرب جديدة ثالثة لا يحمد عقباها، والمماحكات الأوكرانية – الروسية وبالعكس لن تتحول لصدام أمريكي مع روسيا بكل تأكيد.
وحرب ثالثة من شأنها لو حدثت من الممكن أن تعيد البشرية إلى ما قبل التاريخ، وإلى عصر الكهوف والرماد والحجارة. والضامن الوحيد لعدم اندلاعها هو التعادل النووي العسكري بين روسيا وأمريكا على وجه التخصيص، وعدم قدرة أي منهما على الانتصار فيها، ولأن أية ضربة عسكرية أمريكية – غربية ستواجه سريعاً بمثلها، وحب الحياة، وعدم قدرة العلم لغاية الآن إثبات وجود حياة بديلة للإنسان في الكواكب الأخرى القريبة من الكرة الأرضية.
ولقاء بوتين – بايدن الجديد عبر – الأونلاين – وبين مدينتي (سوتشي) على البحر الأسود وبين (واشنطن) بتاريخ 7 ديسمبر 2021 لم يكن الأول بينهما، ولقد سبقه لقاء مباشر في (جنيف) في كانون الثاني 2021، وقبلهما اتصال هاتفي في شهر تموز 2021، وكل اللقاءات والاتصالات بين روسيا بوتين وأمريكا بايدن عنت أهمية اعتراف كل دولة عظمى وقطب مثل روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية بقوة بعضهما البعض، وبالدور السياسي والدبلوماسي والاقتصادي لكل منهما، خاصة وأن روسيا تمثل (المعارضة) دولياً، وأمريكا تمثل (السلطة) دولياً أيضاً.
ولديّ استشعار عن بعد، بأن الرئيسان فلاديمير بوتين وجو بايدن، لهما رغبة أكيدة بمواصلة اللقاءات بينهما ومنها المباشرة، وهما الآن يلتقيان وملامح الطيبة والاحترام تسمو بينهما، والواجب تطويرها لتصبح في موسكو وواشنطن، وفي نهاية المطاف أمن العالم هو الهدف والعنوان لكل البشرية، ودولها مترامية الأطراف وتحت مظلة قادة العالم العاملين في الدول الكبيرة والصغيرة.
إن من أكبر الإنجازات التي نجمت عن لقاءات بوتين – بايدن حتى الساعة، الإبقاء على معاهدة (ستارت 3) لمدة خمسة سنوات، وهي الخاصة بشبكة الصواريخ الباليستية متوسطة المدى، والعودة للإتفاق النووي الإيراني الدولي (5+1)، بعد ثبوت عدم شروع إيران وحتى وقتنا هذا في انتاج قنبلة نووية سرية، وتتعاون مع روسيا في الانتاج النووي السلمي في مفاعلات (بوشهر)، والوقوف مجدداً على عمليات التحرش الأمريكي وعبر حلف (الناتو) بحدود روسيا من الجانب الشرق-أوروبي، وعبر مياه اليابان، والبحر الأسود بالقرب من إقليم (القرم) الروسي والمتنازع على سيادته مع غرب أوكرانيا، علماً بأن تاريخه متقلبٌ عبر حقب زمنية مثل (العثمانية، والإمبراطورة يكاتيرينا الثانية في حربها المنتصرة على العثمانيين عام 1783، والسوفيتية منذ عهد الزعيم نيكيتا خرتشوف عام 1954 ولمدة 60 عاما، اخترقت عهد الرئيس بوتين حتى عام 2014، وهو العام الذي انقلبت فيه أوكرانيا الغربية على رئيسها الموالي لروسيا فيكتور يونوكوفيج، وظهر فيه حراك للتيار البنديري الأوكراني المتطرف والمناهض لروسيا، وقدوم الرئيس بيترو باراشينكا الوزير السابق في عهد يونوكوفيج، وهو الذي قاد الصدام مع روسيا بسبب سحب إقليم (القرم) من السيادة الأوكرانية بعد مكوثه بحوزتها 60 عاما في الحقبتين السوفيتية والروسية.
لكن خروج (كييف) عن طورها السياسي، وتوجهها بالكامل صوب الغرب الأمريكي، وحلفهما (الناتو) المعادي لروسيا، ورغم عدم وجود مشكلة لدى روسيا بتوجه أوكرانيا (للاتحاد الأوروبي) مثلاً، ولعدم السماح لغرب أوكرانيا من قبل روسيا بإجتياح شرق أوكرانيا (الدونباس ولوغانسك) الموالي لروسيا والناطق باللغة الروسية بشكل ملاحظ أكثر من غرب أوكرانيا، ولإعلان (كييف) انفصالها عن المدرسة الدينية الروسية الأرثوذكسية، وعلى مستوى الإنفصال عن اللغة الروسية، وعن المواصلات الروسية، وتشنيج الإعلام الروسي، والذهاب لإشاعة أن الحرب الروسية على أوكرانيا أصبحت تقترب من الحدود الأوكرانية، وهو محض هراء ودعاية رمادية وسوداء. وموسكو متمسكة وبشدة بإتفاقية (مينسك) القاضية بفرض سلام دائم على الأرض الأوكرانية غرباً وشرقاً، وتعتبر الأوكران أخوة وجيران لروسيا، وبينهما خبز وملح، وتاريخ سوفيتي عريق يمر بحرب عالمية ثانية 1939 1945، وقبلها بمجاعة مشتركة واحدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي (GOLODOMOR).
وفي قمة بوتين – بايدن الجديدة قبل أيام، حصلت أمريكا على ضمانة من روسيا بعدم الشروع باجتياح (كييف) تحت أي ظرف، وأية تقلبات سياسية، وهو الأمر الذي تعتبره موسكو استفزازا من قبل أوكرانيا وإعلامها، ولا نية حقيقية لها باقتحام حدود أوكرانيا، لكنها تتمنى على (كييف) التمسك بالحوار مع الدونباس ولوغانسك شرقاً وفقاً لاتفاقية (مينسك)، وعدم الإمعان بحفر الخنادق لاجتياح الشرق، ودعوة سابقة وجهها الرئيس فلاديمير بوتين للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وعبر وساطة بيلاروسية قادها الرئيس ألكسندر لوكاشينكا لزيارة موسكو، ولقاء القيادة الروسية في قصر الكرملين الرئاسي، وهي الدعوة التي لم يصغ لها زيلينسكي، وفضّل الإبقاء على الصراع الأوكراني – الروسي قائماً، مستقوياً بأمريكا وحلف الناتو، وهي التي نشرت قاعدة عسكرية غرب أوكرانيا وبطلب من (كييف)، مخالفة الدستور الأوكراني نفسه.
ومن الجدير ذكره هنا، هو بأن تبادل الزيارات المباشرة بين رؤساء أمريكا والاتحاد السوفيتي وروسيا بعد انهيار (الاتحاد) ومنذ بدء العلاقات الأمريكية-السوفيتية عامي 1809 و 1933، استمرت وبوتيرة متسارعة، لكنها تعثرت بعد صعود شخص الرئيس فلاديمير بوتين لسدة الحكم في موسكو، ولِما يتمتع به من صفات فولاذية أمنية وسياسية واقتصادية وعسكرية قلّ نظيرها، وتحولت إلى لقاءات غير مباشرة وفي مناطق محايدة لهدف أمريكي يرمي لإثبات بأن أمريكا العظمى لا تقبل بأعلى من لقاءات الند بالند الرئاسية، ولا يناسبها، ولا ترى نفسها حاضرة وسط العاصمة الروسية المنافسة بقوة لواشنطن.
وتصريح اثنين من أعيان مجلس الكونغرس الأمريكي (ستيفان كوين وجون أوليسون) بتاريخ 19 تشرين الثاني المنصرم 2021، بأنه إذا ما ترشح الرئيس فلاديمير بوتين للرئاسة من جديد في موسكو عام 2024 بعد تصفير الدستور وفاز، فأن أمريكا لن تعترف به رئيسا لروسيا ولن تتعامل معه، وجاء رد مجلس الدوما الروسي (نواباً وأعياناً) صارماً بالدعوة لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن مثل هكذا تصريح لم يرتقِ لمستوى بحثه في قمة بوتين – بايدن (أونلاين) الأخيرة.
ولقد زار الزعيم السوفيتي نيكيتا خرتشوف أمريكا عام 1957، وزار الزعيم الأمريكي ريتشارد نيكسون الاتحاد السوفيتي عام 1972، وزار الزعيم السوفيتي ليونيد بريجينيف واشنطن عام 1973، وزار الزعيم ميخائيل غوباتشوف واشنطن و التقى الزعيم الأمريكي جورج الأب عام 1990، وزار الرئيس بوريس يلتسين أمريكا عام 1992.
وهنا أتحدث عن الزيارات المتبادلة الأمريكية – السوفيتية – الروسية المباشرة فقط، كمثل على ما أوردته أعلاه، وللحديث بقية.