أ.د. عصام سليمان الموسى
.. وأقصد اولئك الإعلاميين الذين هولوا وزادوا النار اشتعالا، والذين عمل بعضهم على تشويه صورة المواطن الأردني والوطن في مرحلة رفع الضريبة التي ما زلنا نعيش ارهاصاتها حتى يومنا هذا، فالمظاهرات تهتف – من بين ما هتفت به: ‘لا لسياسة التجويع والتركيع والإذلال’، والمقالات تعلن اننا ‘في حالة حرب’، وتهاجم مجلس الأمة بشقيه الذي ‘تآمر’ على ‘الشعب الأردني المغلوب على أمره’ والذي فرضت عليه ‘فئة ضالة’ ‘العقوبات’.
وتنتقد هذه الرسائل التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة وتنتشر على نطاق واسع تلك القرارات التي ‘نهشت جيوب المواطنين وأنعشت كروش الفاسدين والسارقين’ وذلك باسم ‘قوت المواطن وكرامته’ وحولتنا الى ‘شعب يحتضر’، وهي نداءات غُلفت بإطار من ‘توريث المناصب’ و ‘الأوضاع الاقتصادية الصعبة’ التي يعيشها مواطننا.. هذا ‘المواطن البسيط الذي لا سند له’ لأنه ‘البقرة الحلوب’ ، الذي يواجه الجوع اذ صارت ‘قلاية البندورة أغلى من المنسف’؛ ثم تكشف هذه المقدمات عن نواياها المبيتة فتعمل على استنهاض همة المواطن لغرض في نفس يعقوب : ‘لك الله ايها الشعب النبيل، ايها المواطن العفيف..مت شهيدا مرفوع الرأس حتى يعيش فلان ابن فلان بقصر عاجي’، بدل محاسبة ‘الفاسدين’ ، والهدف منها هو: ‘اندلاع شرارة الاحتجاجات’ في المملكة.
مأ أثار غضبي انها دعوات تحريضية على المكشوف : فحين تتسع الفجوة برأيهم فلا ‘ يعود هناك خوف لدى المواطن..المغلوب على أمره.. على استقرار مجتمعه’ وتحرضهم مسوغة لهم الإخلال بالنظام: ‘ لارتكاب مخالفات قانونية واجتماعية تطيح بالمعايير التي بني عليها المجتمع’..
وما أثار غضبي أكثر انها رسائل تحمل مضمونا من الكراهية لوطن يسعى الى لملمة أنفاسه وتضميد جراحه النازفة واسترداد انفاسه أمام وحش المديونية المخيفة التي تقلق بال كل مواطن شريف عاش على ثرى هذا الوطن الجميل وارتوى من مائه .
وما أثار غضبي أكثر وأكثر انها تأتي ضمن مظلة حرية التعبير التي غلفت ديمقراطيتنا الوليدة منذ أحداث عام 1989 والتي عادت علينا حينئذ ببرلمان وقوانين تحررية.
علمتُ طلبتي ممن درست في كليات الإعلام منذ عام 1981 ان الرسالة الإعلامية المنتمية يجب ان تنبثق عن قيم المجتمع النبيلة واحتياجاته المشروعة وترتبط بمصالح الوطن العليا باعتبار ان الإعلامي قائد رأي في مجتمعه. فهل قيمنا تحض على التمرد في زمن الشدة بدل التماسك ؟ وهل احتياجاتنا تحولنا الى شعب خاضع للتركيع والتجويع والإذلال ؟ وهل مصالح وطننا العليا تعني قبول المديونية وتزايدها؟
الم يحن الوقت لمواجهة الواقع بعد مرور ثلاثين عاما على المديونية المتزايدة؟ ألم نعقل بعد لنعرف ان الحكومات السابقة خلال الثلاثين سنة الماضية عمقت المديونية ورحلت مشاكلها للحكومات التي جاءت بعدها؟ ثم الم نتعلم من تاريخنا الإعلامي أن حرب عام 1967-على سبيل المثال – التي قادت لخسارة الضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء كانت نتيجة المزايدات الإعلامية؟
أجل: تاريخنا الاعلامي مليء بالمزايدات والكذب والمبالغة والتشهير ببعض. وحاضرنا هو امتداد لماضينا القريب. كلنا نعرف انه كانت هناك أخطاء.. ولكن الى متى؟؟ وكلنا ندرك اننا يجب ان ننهض. وكنت قرأت قبل فترة عن نهضة كوريا الجنوبية وكيف تبرع الكوريون بما فيهم النساء بكل حليهن لنهضة الوطن. فصارت كوريا من اغنى الدول.. فمن منا لا يريد لوطننا ان ينهض من كبواته؟
ويزداد السعير عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرت للمواطن العادي قوة الارسال والاستقبال، فصارت هذه الوسائل تتناقل رسائل فضائحية الطابع في أغلبها تسعى لهدم ثوابت القيم النبيلة التي نشأنا عليها: قيم القناعة والاكتفاء الذاتي، وكرامة النفس، وعلو الهمة، واحترام المسؤول، وحب الوطن والتضحية في سبيله، والعمل الجاد، لتحل محلها على هذه الوسائل قيم الهدم التي تشجع السرقة والحرمنة والسطو والشطارة والبلطجة والسرقة والنهب والسفالة بمختلف أنواعها الجنسية والأخلاقية .. وكل هذا باسم حرية التعبير.، والتي لا أشك مطلقا ان وراءها طابورا خامسا لا يريد الخير للبلد.
والمشكلة ان هذه القيم حين تنتشر على المواقع الاجتماعية والصحف اليومية والالكترونية تكون محفزا في الأغلب للإنسان البسيط ليقلدها ويزايد عليها فيقع بسهولة فريسة سهلة في مسارب (الدعاية السوداء) التي هدفها في النهاية تسميم حياة المواطن وتحويله الى انسان ملول متذمر غير قانع يشك بكل شيء وكل فعل وكل قيمة وكل شخص، وتحوله الى انسان غير منتم وكاره لمحيطه، وكل ذلك لخدمة أجندات مشبوهة هدفها تدمير البلد.
وتتفاقم المشكلة في غياب تعليم نوعي يبني الشخصية المستقلة للإنسان الأردني فيصبح الإعلام بديلا يعلم الناس ويقودهم: لأن من وظائفه التعليم.
أجل..غضبت على العديد من اعلاميي وطني الذين بالغوا وجيشوا وسعوا لإشعال النار بدل الدعوة للحوار الهادئ وطرح الحلول لتصحيح المسار الخاطئ. من هنا فاني أدعو إعلاميينا ان يخافوا الله في وطنهم ومجتمعهم فلا ينشرون رسائل الكره- الكره الذي صار ينهشنا باسم حرية التعبير. وهي فوق هذا دعوة لهم لإعمال عقولهم بما ينشرون: اسألوا دائما ان كان فيما تنشرون او تذيعون خدمة لقيم الأمة والوحدة والكرامة والعفة والأخلاق السامية والتماسك والانطلاق نحو البناء والمستقبل. وتذكروا ان الاعلام القوي هو الإعلام الذي يطرح حلولا مرضية لكافة الأطراف تقرب وجهات النظر المتباينة بدل التطرف والتمرد والهدم.