أ. سعيد ذياب سليم
” انتظار “
يلتقيان أمام عيادة الكلى كل ثلاثة أشهر، صديقان هما، على هامش الأمل، يمضيان الوقت حتى موعد مقابلة الطبيب، يتحدثان عن قصتيهما
مع الحياة، يستخدمان النواسخ كلها، كان و بات و أصبحنا وليت ولعل و كأن ..
يتحدثان عن الأولاد ودراستهم وأعمالهم، عن الفحوص الدورية وعن مضاعفة جرعة الدواء، وربما عن عملية جراحية في المستقبل القريب،
كل يحمل عكازه و” كيس الدواء” ، أوراق تتناثر: ورقة الدور و كشف الحساب ونتائج التحليل، هم موظفون متقاعدون، أحدهم كان معلما
أمضى ما يقارب الثلاثين عاما في التدريس ومعاقرة الطباشير، يحدثك عن قواعد اللغة الإنجليزية وكيفية التحويل من Active إلىPassive
صوته يضعني في الصف على مقعد الدراسة القديم الذي تركته منذ سنين مضت، أمام السبورة السوداء ، أنظر حولي في وجوه زملائي ،
كانت المدرسة هي عالمنا الذي نعيش من أجله ، ننتظر الدرس بشغف، مدرس الفن التشكيلي وهو يعلمنا كيفية مزج الألوان و استخدام قلم
الفحم، معلم اللغة العربية وهو يطلق خيالنا في اختيار موضوعات الإنشاء، مدرس الجغرافيا يشرح خصائص المكان الذي يتمتع به موقعنا من
العالم، ويرسم معنا خارطة المستقبل، فريق مدرستنا لكرة القدم ” الشياطين الحمر ” كما كان يحلوا لنا تسميته، كل هذا يثيره المعلم المتقاعد
ونحن ننصت بهدوء يجلله ذكريات الماضي العزيز، ترى ماذا يصنع الأولاد في مدارسهم اليوم هل مازال معلم الفن يمزج الألوان ؟
هؤلاء العجائز يقاومون الضجر والأيام، لهم آراءهم التي يستعرضونها أمامنا حتى يدخلون إلى العيادة، يقاومون التوتر بطرح مشاكلهم جانبا
حتى يثيرها الطبيب من جديد، ينظرون طويلا إلى مقعد موظفة الاستقبال الفارغ حتى تعود، و إلى كومة الأوراق التي يحافظون بها على
الدور وهي تزداد ورقة ورقة كلما جاء أحد المرضى، تزداد دقات قلوبهم مع مرور الدقائق ويبدو عليهم التوتر في عدد المرات التي ينظرون
بها إلى ساعاتهم، كم سيء هو الانتظار؟ أثناء ذلك ينقلوننا في مركبة زمنية بين أجيال مختلفة، تسمعهم يسهبون في الحديث عن ماضيهم
وأمجادهم، واليوم يجلسون في انتظار أن يقابلهم الطبيب لدقائق معدودة لا تسمن ولا نغني من جوع يشرحون ما هو الجديد في معاناتهم وما
الأعراض الجانبية للدواء الجديد.
يستحضرون التاريخ و أحداثه، ترتفع أصواتهم في النقاش، تشارك إحدى السيدات في الحوار، فتخف حدة النقاش ، يخرج أحد المرضى بعد
مقابلة الطبيب يسأل عن المختبرات فيتبرع عدد من الحضور بإرشاده، يسأله أحد الجالسين كم كان رقمك؟
لا تخلو الصالة من الوجوه الشابة ، ذلك شاب يحاور هاتفه، متنقلا بين تطبيق و آخر، يتطلع حوله كلما ارتفعت وتيرة النقاش، يختلس النظر
للفتاة على المقعد المقابل، لا بد أنها ترافق والدها . ينقسم الحضور إلى قسمين، قسم يتكلم وآخر يبتسم بصمت ، يغالب خوفه وينتظر ما
سيقول له الطبيب، يتذكر أحد الصديقين زميلا آخر لم يأت اليوم، يقترب من موظفة الاستقبال للسؤال عنه، فتجيب لم يعد يأت في الموعد
الصباحي بل المسائي، يتناقص عددهم كل موسم، ربما يذهبون في موعد مسائي، تعود السيدة للحديث يحاورها أحدهم متحدثا عن حق
العودة و التعويض، وكأنك تستمع إلى نشرة أخبار مسائية لا تعلم كيف يفرض الضجر موضوعاته على الناس، تتحلق الافكار حولهم تجذبهم
للحديث عنها، تمر بهم امرأة مثقلة بحملها باتجاه عيادة النسائية تجر خلفها طفلا، تهدأ الأحاديث قليلا تحية للمرأة، يحاول أحد الصديقين أن
يرسل رسالة نصية ، تخذله الأحرف متراقصة على “شاشة” هاتفه، نسي أن يحمل نظارته اليوم، ترك الكتابة وانتبه للحديث الدائر عن
ضرورة استخدام الوسائل الحديثة للاستمطار وتغير المناخ عالميا، لا أدري كيف تذكرت فيلم “الطيران فوق عش الوقواق” ، ربما لغرابة
الشخصيات وطريقة الحوار الدائر و ملامح الوجوه المتعبة، يتحدث الفيلم عن مجموعة من المرضى يجتمعون في مصحة لعلاج الأمراض
العقلية. ينقذني من ذلك كله صوت الممرضة يدعوني للدخول. لدى الطبيب جهاز ضغط غريب، في كل مرة تتجاوز قراءتي المئة والخمسين، لا
أدري لماذا، ربما الجو في صالة الانتظار وحديث الذكريات، يوصي بفحوصات جديدة، وموعد قريب.