تريز هلسة.. مناضلة أصابت نتنياهو برصاصة وواجهت شارون شخصية عنيدة وشجاعة لا تعرف التراجع عن أي قرار، تبحر في عالم من التحدي، عفوية وصريحة لا تعرف المواربة. تعيش في داخلها سيدة متمردة وثائرة، سنوات الاعتقال ومرارة العذاب الجسدي وفنون التعذيب النفسي ومحاولات المحققين إقناعها بالجنون، ومحاولاتهم قطع يديها بعد إصابتها الخطيرة برصاصة، لم تؤثر في نفسيتها كثيرا وبقيت صامدة، ولم تشعر يوما بالندم على ما قمت به من عمل نضالي قبل نحو 48 عاما. تريز هلسة المولودة عام 1954 في مدينة عكا شمال فلسطين لعائلة أردنية مسيحية، قدم والدها من مدينة الكرك إلى فلسطين عام 1946. والدتها من قرية الرامة قرب عكا، أنهت دراستها الثانوية في مدرسة عكا، وأكملت دراستها في التمريض في المستشفى الانجليزي في مدينة الناصرة. كان الشاعر توفيق زيّاد و”الحزب الشيوعي” حاضرين في حياتها مع بداية تفتحها ووعيها، زيّاد كان يمثل بالنسبة لها ولجيلها العروبة، أو” العربية الصح”، كما تقول هلسة، أشعاره، خطاباته وشعره كانت بالنسبة لها رمزا كبيرا في فلسطين. لم تقتنع الشابة هلسة بضيق أفق وهامش عمل “الحزب الشيوعي” في الداخل فقررت الانضمام إلى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن شهدت في عكا عام 1970، واقعة القبض على ما عرف لاحقا بـ”مجموعة عكا”، حيث قتل أحد أعضائها قاسم أبو خضرا من أبناء عكا وعند تشييعه، منع الاحتلال عائلته من رؤية جثته لمنع كشف التعذيب الذي تعرض له، حيث روت لاحقا أن هذه الحادثة مثلت نقطة مفصلية في قرارها. وأيضا بعد أن رأت معاملة جنود الاحتلال لأبناء شعبها في جنين، وتأثرها بالعمليات الفدائية الفلسطينية ضد دولة الاحتلال التي ازدادت في مطلع السبعينيات. غادرت فلسطين المحتلة عام 1971 دون علم عائلتها وهربت إلى الضفة الغربية ثم إلى لبنان، برفقة شابة زميلة لها في الدراسة، وتاهت الفتاتان لثلاثة أيام إلى أن وصلتا إلى إحدى القرى الحدودية، فدخلتا فندقا لتناما فيه. بعد عملية تسلل شاقة إذ بدلا من أن تستغرق العملية خمس ساعات مشيا على الأقدام استغرقت ثلاثة أيام. وأثناء استراحتهما، أتى شاب صغير وأخبرهما أن صاحب النزل اتصل بالدرك اللبناني لإلقاء القبض عليهما، وطلب منهما الهرب. هربت الفتاتان من الفندق وجلستا على الرصيف منهكتين وجائعتين، وشاء القدر أن يمر من أمامهما مجموعة من مقاتلي حركة “فتح”، وأُخضعت تيريز الصبية ذات السادسة عشر ربيعا لتحقيق طويل من قبل رجال “فتح”، ونقلتا بعدها إلى معسكر للتدريب بعد التأكد من هويتهما، وانضمت هلسة لـ “فتح” وانخرطت في مجموعة “أيلول اسود” عام 1972 وكان عمرها وقتها 17 عاما. وفيما بعد سيقع عليها الاختيار لقيادة عملية اختطاف طائرة من أجل لفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، فسافرت هلسة برفقة علي طه وعبد الرؤوف الأطرش وريما عيسى طنوس بجوازات سفر لبنانية مزورة إلي روما، مرورا بالعاصمة البلجيكية، بروكسل، ومن هناك إلى دولة الاحتلال بجوازات سفر إسرائيلية مزورة ومنحت هلسة اسم مريم حسون وهي ابنة تاجر مجوهرات غني في الدولة العبرية. وبدأت العملية باختطاف طائرة بوينع 707 تابعة لشركة “سابينا” البلجيكية المملوكة لإسرائيليين والقادمة من بروكسل، إلى مطار اللد في فلسطين المحتلة، والتي خطط لها القيادي في “فتح” علي حسن سلامة، وكان الهدف من وراء العملية مبادلة الرهائن بأسرى أردنيين وفلسطينيين، وكان على متن الطائرة 140 يهوديا. وبعد الاستيلاء على الطائرة، ولحظة استقرارها على أحد مدرجات المطار، أبلغ قائد المجموعة برج المطار باستيلاء مجموعة من “منظمة أيلول الأسود” على الطائرة، وطالب أعضاء المجموعة التي عرفت بمجموعة “وليم نصار” من الحكومة الإسرائيلية إطلاق سراح 200 أسير فلسطيني من السجون، خلال عشر ساعات وإلا ستقوم المجموعة بتفجير الطائرة بركابها، وابلغ البرج بأسماء المطلوب إطلاق سراحهم. قبل انتهاء مهلة الإنذار بقليل، حضر إلى المطار مندوب الصليب الأحمر الدولي، وطلب تمديد مهلة الإنذار، وأعلن عن استعداد الصليب الأحمر للتوسط مع السلطات الإسرائيلية لتنفيذ شروط “المنظمة”. وفي الفترة التي أعقبتها قام وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان، ورئيس الأركان دافيد العازار، ووزير المواصلات شمعون بيريس بالتفاوض مع المجموعة عن طريق برج المطار ومكبرات الصوت، إلا أن قائد المجموعة أصر على تنفيذ كافة شروط المنظمة. كانت هلسة تريد تفجير الطائرة بركابها حين تأخرت المفاوضات، ولم تثمر عن أي شيء، وبعد تهديدها المتكرر بتفجير الطائرة سحب منها السلاح لكي لا تقوم بعملية التفجير منفردة، كان علي طه قائد العملية ينصاع لرأي القيادة التي تنصحه بالتأجيل لأسباب لم يفهمها الخاطفون، ولا تزال تثير حيرة هلسة نفسها. قبيل الظهر طلب مندوبو الصليب الأحمر الدولي، بعد عدة زيارات قاموا بها للطائرة، السماح بإدخال الطعام والماء إلى الطائرة، وذلك انتظارا لتنفيذ الشروط التي قدمها قائد المجموعة، فتمت الموافقة على ذلك. في الساعة الرابعة والنصف وصلت سيارات الطعام إلى الطائرة حيث تم فتح الأبواب، ولدى دفع صناديق الطعام بواسطة السيارة المخصصة لذلك اندفع الجنود الذين يرتدون ملابس الصليب الأحمر إلى داخل الطيارة واشتبكوا مع المجموعة، وشارك في العملية رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود باراك (كان وقتها ضابطا صغيرا)، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (وكان وقتها يخدم في الجيش ولم يكن معروفا)، والجنرال المتقاعد عوزري ديان، ورئيس الموساد السابق داني ياتوم. وخلال عملية الاقتحام تمكنت الوحدة الإسرائيلية من قتل علي طه وزكريا الأطرش، كما قتلت فتاة إسرائيلية، أما هلسة فقد أصابتها رصاصة في يدها ورصاصة أخرى مرت قرب عينيها ورصاصة ثالثة، فيما كانت الرصاصة الرابعة الأكثر خطورة فقد دخلت الكتف من الأمام وخرجت من الخلف، ولم يعد بإمكانها مسك المسدس بعد نزيف كبير في يديها، فألقي القبض عليها رغم محاولاتها الهرب من الطائرة، وعندما وضعت على الحمالة جاء جندي، وغرس سكينة في كتفها فقطعت الشريان الأساسي الذي يغذي اليد بالدم . واعتقلت هلسة برفقة ريما واقتيدتا للتحقيق. قدمت هلسة وطنوس فيما بعد للمحاكمة بعد تحقيق وتعذيب جسدي ونفسي لمدة أربعة اشهر، وحكم عليهما بالسجن المؤبد مرتين وأربعين عاما، قضت منها 10 سنوات في السجن إلى أن انتهت بالنفي بعد الإفراج عنهما بصفقة التبادل عام 1983. وقبلها كان اسم تيريز وريما من ضمن قائمة أسماء المعتقلين الذين قدمها منفذو عملية ميونخ لمبادلتهم بالرياضيين الإسرائيليين الرهائن. تريز لا تزال تتحدث بفخر عن تجربتها النضالية، وتقول بأنها غير نادمة أبدا على كفاحها المسلح، مؤكدة رفضها الاستسلام خلال خطفت الطائرة وأصابت بنيامين نتنياهو برصاصها خلال إطلاق النار. وفي سياق تصريحات صحافية قالت هلسة: “كنت متأكدة من أن الحكومة الإسرائيلية لن ترضخ لشروطنا وتطلق سراح الأسري، ولكن الهدف الرئيس من العملية كان مغايرا؛ ففي العالم ساد الاعتقاد ان منظمة التحرير الفلسطينية هي منظمة إرهابية، وبواسطة اختطاف الطائرات أردنا أن نعرف العالم بقضيتنا، قضية الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه ووطنه في النكبة”. ما زالت تريز هلسة محرومة من دخول الأراضي الفلسطينية ورؤية عائلتها في عكا وحيفا ولا يزال يراودها حلم العودة إلى عكا حيث ولدت ودرست وكبرت. عاشت هلسة المرحلة اللاحقة من حياتها، فتزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد، واستوعبت صدمات ما سمي “مرحلة السلام” و”اتفاقية أوسلو” وتصف إحساسها وصدمتها بقولها :”شعرت كأن نضالنا لم يكن سوى قليل من الملح ذوبوه في كوب من الماء”. اليوم تنظر تيريز إلى الوضع الفلسطيني بحسرة وهي ترى الانقسام وتراجع المشروع الوطني القومي الفلسطيني، والحل بالنسبة لها أن “نحفر حفرة في الأرض لنرمي فيها كل قياداتنا، وننتج قيادات شابة جديدة” بحسب قولها. وهي حين تتذكر أول مواجهة بينها وبين أرييل شارون بعد خروجها من المعتقل، وتسليمها للصليب الأحمر، تتحدث بفخر كبير، وكيف تبادلت معه الشتائم وهي في طريقها إلى خيمة الصليب الأحمر تمهيدا لنقلها مع الأسرى المحررين إلى الجزائر. تيريز التي أنهكها المرض ترفض أن تظهر أمام الناس بضعفها، وتريد أن تبقى صورة الفتاة التي تحمل الكلاشنكوف، والتي تحاول الهرب من الطائرة، أو التي تقف في قاعة المحكمة حاضرة دائما في ذاكرة الناس. رسالة تيزيز جاءت قبل رحيلها بأيام عبر نجلها سليمان الذي أكد أن والدته المناضلة الكبيرة ترقد على سرير الشفاء بمستشفى الأردن، وسيتم نقلها إلى مركز الحسين للسرطان، متمنيا عدم نشر صور والدته وهي على سرير الشفاء حتى لا يؤثر ذلك بمعنوياتها وهي السيدة الصامدة والقوية طيلة مسيرة حياتها. رحمها الله وتقبلها مع الشهداء والصالحين.