سعيد الصالحي
لست معتادًا أن تخذلني الكلمات، فما بها لم تعد تقوى على قول ما يعتريني هذه الأيام، فلم أعد قادرًا على الكتابة لا بالكلمات ولا حتى بالرموز، فكتابة هذه المعادلات النفسية يتطلب شيئًا أقوى من الكلمة وأكثر صراحة من الشيفرات والاستعارات، فمنذ أن تداخلت المعادلات في نفسي تحول قلبي وعقلي لمختبر يشبه ثلاجة الموتى، مختبر كئيب، بارد، لا روح فيه، لا تسمع فيه سوى نواحي على معتقدات ونظريات أصبحت صور غير متحركة قد بهتت ألوانها وغابت عنها الحياة، صارت كجثث موتى لا أهل لهم، ينتظرون طقس الصلاة والدفن من الحكومة.
هذه العناصر المتفاعلة في أعماقي وفي أجواء مختبري لا تنتج شيئا منذ مدة سوى روائح غير مستحبة ومركبات غير نافعة لا تصلح حتى حجابًا لبيع الوهم والدجل، جربت أن أغير وأبدل في هذه العناصر فلم أحصل على الحياة التي أريد، فالحياة حتمًا لا تبدأ في ثلاجة الموت، حقًا لا أعرف إن كان الخطأ في معادلاتي وحساباتي أم في عناصر هذه المعادلات التي قضيت ردحًا من العمر في تجميعها وتعظيمها وأحيانًا في تقديسها؟ ولكن بعد تفكير سطحي وغير عميق وجدت أن الخلل في صاحب المختبر وحامي حمى ثلاجة الموتى.
لأول مرة أجد الكلمات حائرة ولأكون أكثر صدقًا أجدها خائفة مترددة، فربما أنا الخائف، المتردد والجبان، وألقي كل ما بي من صفات على هذه الكلمات التي هي مرآة حالي، فأنا منذ مدة لا أستطيع اتخاذ أي قرار بسيط دون استشارة خبراء التاروت وعلماء برج الثور، ولا أستطيع أن أختار الطريق الأمثل لمنزلي إلا بمباركة خرائط هاتفي النقال، وكأن عقلي قد خرج مني وأقسم ألا يعود، فلماذا يعود أن كنت لا أعرف مفاتيح استخدامه؟ أما قلبي فأصبح كالبحر الميت بعد أن خسفت به الدنيا، وبات يضيق كل يوم بضعة سنتيمرات، وتزداد ملوحته، وأصبحت كل مشاعري مخللة، ولم تعد أمطار الشتاء تغسلها كما كانت تفعل في الأعوام الماضية، فأنا كمواطن صالح قدمت حصتي من ماء المطربكل محبة لأزيد منسوب السدود في بلادنا فهي بحاجة لهذه المياه أكثر من قلبي.
حتى عالم الأحلام الذي كنت أهرب إليه أحيانًا في صحوي ومنامي أصبح رتيبًا هو الآخر، فحتى الأحلام تحتاج إلى ماء أقل ملوحة من ماء قلبي، وتحتاج ألوانًا زاهية لم يعد عقلي قادرًا على انتاجها، بعد أن أشرقت شمس عقلي الرمادية في كل مكان، فالأحلام غادرت حياتي وأقسمت ألا تداعبني وألا تزورني، فقد رقدت بسلام في ثلاجة الموتى إلى جوار كل من رحلوا، وتركت لي رسالة تخبرني بها أنها ستصحو عندما تأتي الأيام الجميلة التي وعدنا بها.
لقد تعلمت خلال هذه الفترة التي أعيش، أن من الصعب على الأنسان أن يعود إلى ذاته عندما يغادرها مكرهًا، فهجرة الذات تحيل النفس إلى ثلاجة موتى لنفر واحد، فعندما تعود إليها بعد رحلة من الضياع والهجرة واللجوء، ستجد أن كل شيء تغير وأن لا مكان لك في ذاتك، وحينها ستبدأ رحلة جديدة على أمل أن تجد الراحة في ذاتك عند العودة، ولكنك ستجدها بعد كل رحلة أكثر وحشة، ولم تعد رمادية مثلما كانت بل صارت أكثر سوادًا.
أنا في رحلتي العاشرة هذا العام، فكل شهر أسافر في رحلة ذاتية للبحث عن ذاتي، وليتني إقتصرت رحلاتي على رحلة الشتاء والصيف، وليتني لم أدخل ثلاجة الموتى.