سعيد الصالحي
كانت شمس الشتاء تنسل بكل خجل من بين الغيوم، وكانت تحاول أن تخفف من وطأة الأجواء الباردة التي جعلت من عملية البيع على البسطة أمرا في غاية الصعوبة، فلا البضائع تقوى على الوقوف فوق سطح البسطة، ولا عدد المارة في الشارع يبشر بيوم جيد لبيع الفقع، ولأن لقمة العيش يجب ألا تخضع للظروف الجوية أو الأرضية، فكرت بسرعة وقررت أن أبني مظلة وأرفعها في المساحة المخصصة لي على البسطة، لتساعدني على عرض منتجاتي ولتقيني وزبائني المطر وفي المستقبل أشعة الشمس، وأنا بطبعي لا أحب المماطلة عندما أعزم على أمر ما، فأنطلقت مسرعا نحو صانع الشوادر الذي استقبلني بكوب ساخن من المرمية قبل أن يستمع حتى إلى تحية اللقاء.
شرحت لصانع الشوادر مواصفات المظلة وأبعادها، وكان يسجل على مفكرته الصغيرة كل ملاحظاتي وطلباتي بكل دهشة ومحبة، ثم قال لي: سيسر الطفل الذي سيلعب بهذه المظلة، فأنا وخلال سنوات عملي الطويلة في هذه المهنة لم أصنع مظلة بهذه المواصفات الولادية، ولكن تكرم عينك أيها الجار، وبالمناسبة لقد سمعت بأنك أوسعت جارك المتعجرف ضربا قبل عدة أيام، وبصراحة معظم من في السوق قد فرحوا بضربك له، لأنه يستحقها منذ زمن بعيد، برافو عليك أيها الجار الطيب.
هززت رأسي وارتشفت ما تبقى في قعر كوب المرمية ومضغت أوراقها التي قفزت وتناثرت داخل فمي، واتفقت مع صانع الشوادر على السعر ودفعت العربون، وعدت نحو البسطة لأجد أن رجل البسطة قد بدأ في بناء حاجز خشبي بين شبري المربع وباقي البسطة، وكان الحاجز الخشبي عاليا، فتقدمت نحوه وسألته: ما هذا الجدار أيها الرجل؟ فأجاب: هذه هي الطريقة المثلى لوقف المشاكل فيما بيننا، عليك أن تلتزم بمساحتك على البسطة وأنا حر في استغلال مساحتي بالشكل الذي أريد، ولقد قررت أن أستغل الحركة الضعيفة للسوق في تطوير البسطة وتحصينها، أنا لا أتجنى عليك، أنا أنفذ بنود إتفاقية “صبرنا ونلنا”.
وقع كلامه على رأسي كالصاعقة، ولكنني صاحب حق ولا بد أن أجد مخرجا من هذه الأزمة، وفي صباح اليوم التالي كان الحاجز الدفاعي قد انتصب بيننا كخط بارليف ولا سبيل للتغلب عليه إلا بالحكمة، كانت بضاعته الشتوية من برتقال وهندباء وليمون وحويرنة تحتل البسطة بشكل جميل يلفت انتباه المارة، نظرت إلى شبري المربع الفارغ ولمعت برأسي فكرة جهنمية، فانطلقت مباشرة نحو النجار وقمت بتفصيل عدد من الرفوف، وبعد ذلك قمت بطلائها بألوان مفرحة وزاهية وعدت مساء إلى بسطتي وقمت بتثبيت الرفوف بارتفاع الحاجز الخشبي، وبهذه الحركة زادت مساحتي عدة أضعاف وبدأت مرحلة تحرير السماء من خلال شبري المربع، ولم أنس أن أرفع مظلتي لتؤخذ نصيبها من السماء هي الأخرى.
وفي اليوم التالي قررت أن أبيع في بسطتي الأرضية والطوابق العلوية موادا لا تتناسب مع المواد التي يبيعها، ففكرت في بيع بودرة نيلة الغسيل، وكذلك البودرة التي تستخدم للقضاء على الحشرات والزواحف، ووضعت منتجاتي على الرفوف العلوية حتى تمارس الطبيعة هوايتها وتحمل نسائم الهواء العليلة في الربيع والغاضبة في الشتاء النيلة والبودرة لمنتجاته.
وصل رجل البسطة ولم يلحظ منتجاتي الجديدة ولكنه سخر من مظلتي الصغيرة بابتسامة صفراء، وبدأ ينادي على بضاعته كعادته بصوته المبحوح، وكانت السماء في صفي في هذا النهار وبدأت النيلة وبودرة الحشرات تتطاير نحو البرتقال والأعشاب الخضراء التي يبيع وإلى ملابسه الرثة وكانت أحيانا تتسرب إلى عينيه وإلى عيون زبائن بسطته، وعندما أدرك فعلتي ذهب راكضا وباكيا نحو الجيران ليشكوني، وفي المساء جاء وفد من الجيران لحل المشكلة، وبعد أن استمعت لمطالبهم أخبرتهم أنني لا أبيع أي منتج من منتجات السعادة، وبأنني ملتزم بشبر أبي كفاح المربع وبكافة بنود اتفاقية “صبرنا ونلنا”،وكل ما أحاول القيام به هو محاولة استثمار الفضاء وتحرير السماء بعدما ضاقت بي أرض بسطة السعادة.