رمزي الغزوي
لم يكن وسم «الأردن طاشة» على مواقع التواصل الاجتماعي الجمعة الماضية يفتقر إلى الدقة أو الموضوعية، ولم يكن أيضاً كذبة الأول من نيسان المعروفة كونه يتزامن معها. بل الأردنيون كلهم طشّوا عن بكرة أبيهم. خرجوا في رحلة إلى أحضان الطبيعة بعد أن لبست سُندسها وتزينت بزخرفها البهيج. جلّهم كانت بوصلتهم شمال البلاد، حيث أم قيس وإربد ودير العسل وأم النمل واشتفينا وعجلون وكركمة ووادي الطواحين والريان؛ ليشهدوا عنفوان الدحنون الطافح بحمرته، والسوسنة السوداء المحمية بخجلها، وليتمتعوا بثلج اللوز يمتد على آفاق البساتين، ونوّار الكرز والبرقوق والبيلسان. خرجوا يختلسون يوما طيباً من رزنامة تثقلها الآهات مدركين أن ثمة أشياء لا تكترى أو تشترى.
الربيع الذي هلّ على غفلة وسيرحل على عجل، والبرد وموجاته الزمهريرية المنسلخة من جليد سيبيريا وجلدها، ثم مجيء غرة رمضان، كل هذا جعل من يوم الجمعة فرصة أخيرة لاختلاس شيئ من ذلك الجمال قبل أن يلتهمه ضبع الضياع. ولهذا خلت المدن من أهلها، ومن لم يخرج إلى الطبيعة قدّم أوراق لجوئه إلى بساط عشب في زاوية لم يصلها بعد وحش الإسمنت المقيت؛ كي يقضي ساكورته.
طالما أثارني مشهد طائرات الكاميكازي (الطيارون الياباني الانتحاريون) المزخرفة بنوّار شجر الكرز، وهي تغير بقوة وبسالة نادرة على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية، في جزر هاواي خلال الحرب العالمية الثانية. هذا النوّار يُعرف لدى اليابانيين بالساكورا. وما رسمه على تلك الطائرات أو على ملابسهم وصحونهم وأثاثهم إلا إشارة إلى أن الحياة هشة سريعة الفوات، تتفتح بضعة أيام وتمضي كأنها لم تكن. الساكورا رمز للحياة بكل جمالها وقصرها وضعفها وطيب عبقها. هي كالحياة ليست إلا لمحة عين، أو «طشة» حلوة تدوزن المزاج وتعدّله. وما أسرع ما تنتهي الطّشات.
لدى الأردنيين الذين أغاروا بأرواحهم وسياراته وأقدامهم على مطالع الربيع وروابيه، لديهم تلك الساكورا السنوية. بل ولديهم ساكورا أخرى في أغانيهم الشعبية الخفيفة، التي تحمل بعدا حياتياً حين يقول بعضها: «شباب قوموا العبوا، والموت ما عنه، والعمر شبه القمر، ما ينشبع منه». يشبهون العمر بالقمر، وما أسرع ما يتضاءل هذا القرص الجميل، قبل أن يمحقه ظلام دامس. وما أسرع أن يتلاشى بعد أن كان يتدور بدراً يانعاً كرغيف عشق لذة للساهرين.
هو الربيع يفرُّ منا كماء يفرُّ من بين فروج الأصابع، إن لم نرتويه على عجل خاطف. وكذلك العمر الهارب كنوار الكرز كالساكورا كأغنية القمر، فلا ندري متى كبرنا، ولا لِمَ كبرنا، ومتى صرنا آباء وأجدادا؟!، ومتى أتخمتنا الهموم، وكيف شابت الذوائب منا أو جرفتها معاول الصلع؟!. هي دعوة تتكرّر لاختلاس لحظات عابرة من هذا الزائر الخاطف حتى ولو بقراءة وردة تفتحت بدلال وكسل في أصص زريعة على شرفة من الشرفات.