رمزي الغزوي
جناح الذل ورأس العز
هو يوم آخر يا أمي، إذ نلهث وراء جنة من سلسبيل تحت ظل قدميك، اللتين أكلهما التعب وشققهما المسير في وعر الدروب لأجلنا!. نحن معك وبك ولك، لا نقطع عنَّا حبل السّرة أبداً، فلا تدوري أيتها الأرض؛ ولا تشيخي أيتها الشمس، كي لا يطول فينا الشوك ويقسو، وكي لا يذبل فينا الزهر ويشيخ عبقه. فدعيني أمي أظل صغيراً يبحث عن أصابع حرير تتغلغل في شعري كمشط حنون، فتسبل أحلامي النافرة من نافذة العمر!.
ماذا دهاك أيها الرجل الأربعيني؟!، أبعدما صرت أباً تودّ لو تأخذك أمك برأسك الموخط برماد العمر وغباره، وتدفنه في حجرها وعطرها وتهدهدك وتهدهدك، وتغني لك بشجي صوتها، وتعدك بطير حمام سمين، تذبحه لك على عتبات ذلك النوم؛ فينام الحمام المسكين، ووحدك تطير بناعم الريش على جناح الأحلام.
أم تراك تعيد دوزنة صورتك القديمة، وتجترها كلما لكمتك الأيام، تتذكر نفسك إذ تعود من المدرسة متحمحماً للعب والشيطنة، فترمي بكتبك القبيحة من شق الباب وتطير للحارة والأشقياء، ومساءً حين تعود ملطخاً بالطين والخطايا، أشعث مثل قط الولائم!، تنتظر بفارغ الخوف عقاباً لا يؤلم إلاَّ ألماً طرياً، فتنزل عليك زجة الصفعات كمطر خفيف؛ فتتباكى بمطر غزير؛ ثم لتضمك أمك إلى صدرها نائماً على وقع خفقات قلبها الكبير!.
أم أنك ترى نفسك في طفلك إذ يهرع فارداً ذراعيه إلى حضن جدته، وعندها تتمنّى بخبث لو تتبادل الدور معه لمرة واحدة فحسب، فتصير طفلاً ينجحر في حضن جدته الوثير!.
عندما كانت تضبطني أمي متلبساً بمصِّ بقايا فناجين القهوة ولعقها، كانت بأصابعها تمسح عن خاتم فمي الشاربين الزائفين، ثم تنهال علي بالقبلات والضحكات، وتدعو لي أن أكبر، وتكبر همتي وتطاول قامات السحاب؛ وأن أصير رجلاً بشاربين حقيقيين، يقف عليهما الصقر.
وها نحن كبرنا يا أماه، ولاكتنا الأيام ومصتنا، فلماذا أثقلتنا هذه الشوارب؟!، ولماذا كلما أتعبنا هذا العمر الزائف؛ وددنا لو أن شواربنا من بقايا القهوة؛ عسانا نمسحهما؛ ونعود صغاراً يلوذون بفنجان قهوة بتفله اللذيذ.
ولهذا فيوم الطناجر والخلاطات وهدايا أدوات المطبخ لا يعنينا من قريب وبعيد، إذ نلهث وراء جنة من سلسبيل وحرير تحت قدميك كل يوم من أيام العام: فيا الله، امنحني رأساً مرفوعاً شامخاً، وجناحاً لا ينخفض إلا لأمي ذلاً ورحمة!.
فلأجل أمي بعيدها، وردة لكل الأمهات إذ يجعلن كوكب الأرض عالماً قابلاً للحياة والحب.