د.منصور محمد الهزايمة
وصفت حركة انتقال البشر عبر العالم حتى ما قبل كورونا بالجنونية، حيث كان هناك ملايين من الناس تتحرك في ظل عوامل كثيرة، ومتنوعة، وتحت ظروف شتى؛ جاذبة أو طاردة، وشكلت هذه الحركة ما يقارب (3.5%) من مجموع سكان العالم، وقُدّرت بحوالي (272) مليون إنسان (2019) حسب منظمة الهجرة الدولية، وفجأة توقفت الحركة، وانغلق العالم تماما بعد تفشي الفيروس، حيث أُغلقت معظم منافذ العبور في معظم الدول.
أخذت الحركة من مكان لأخر طابعين؛ أحدهما سلمي، والأخر عمدي، أو قهري، تمثل ذلك بحركة فئات أو مجاميع من البشر كحركة التجار والحجاج والجنود والرعاة والعمال والمهاجرين، ويحمل هؤلاء معهم عاداتهم، وقيمهم، وأساليب حياتهم، والأدهى أنهم قد يحملون معهم -أيضا- أمراضهم، ومسبباتها الكامنة أو الآمنة إلى حين في أجسامهم.
نشأت حركة الانتقال لأسباب سلمية، مثل حركة (التجار والعمال والحجاج)، وحركة عمدية عدوانية مثل حركة (الجنود) في الحروب الاستعمارية، وحركة قهرية التي تمثلت في أبشع ظاهرة عرفتها الإنسانية وهي نقل (العبيد) للعمل في المستعمرات الجديدة في العالم الجديد.
هؤلاء المهاجرون دون الالتفات إلى أسبابهم في الهجرة، قد يُهدون العديد من الأمراض إلى الشعوب والمجتمعات التي يصلونها، بالمقابل فقد يحظون بأمراض قائمة في البيئة الجديدة، بسبب الاختلاط بين المحليين والوافدين، وبما يكمن في فروق المناعة بينهم.
لذلك نشأ نوع من العلم سُمي بعلم الوباء، وهو فرع من علوم الأمراض المعدية، اهتم بحركة نوعين من الكائنات؛ غير محسوسة وهي ناقلات المرض (البكتيريا والفيروسات والأوليات)، وكائنات منظورة وهم البشر، ضحايا النوع الأول، كذلك اهتم بالعوائل الوسيطة لنقل العدوى بين النوعين مثل الفئران والبعوض والبراغيث.
في العصور الغابرة شكلت سبعة من الأمراض تحديا للبشرية، وحصدت الملايين من الأرواح، وتمثلت في الطاعون، الجدري، الانفلونزا، الحصبة، الكوليرا، الملاريا، التيفوس، واستمرت تحضر وتغيب على شكل نوبات، لمدة ستة قرون، كان أخطرها على الاطلاق الطاعون، وفي عصرنا الحاضر ظهرت أوبئة جديدة مثل ايبولا، وانفلونزا الطيور، وانفلونزا الخنازير، وسارس، وكورونا وغيرها، وهذه كلها فيروسية العدوى.
تسببت حركة التجار من موانئ البحر الأسود إلى موانئ إيطاليا، ثم إلى إنجلترا، ومنها إلى مصر، في انتشار الطاعون على شكل نوبات، استمرت عبر ستة قرون (بين القرنين 13-19)، مما نتج عنه تناقص عدد السكان بشكل خطير، خاصة في مصر، كما انتقلت الكوليرا من الهند إلى إنجلترا عبر طرق التجارة، فقتلت (25) مليونا في الهند و(130) ألفا في إنجلترا.
كما أن حركة الرعاة غير المدّجنة تسببت في انتشار الأمراض عبر مناطق واسعة، حيث انتشرت أمراض مثل الملاريا في شرق افريقيا بين دول متجاورة مثل الصومال واثيوبيا وكينيا واوغندا في أجسام الرعاة وأجسام مواشيهم.
لكنّ حركة الجنود العمدية أو العدوانية القائمة على دوافع استعمارية قد أدت بدورها إلى انتشار أمراض مثل الجدري، بسبب عدم مناعة المحليين ضدها، كما في غزو واكتشاف الأوروبيين للأميركتين، مما أدى إلى إبادة أو انقراض شعوب بأكملها.
تمثلت الحركة القهرية بأبشع ظاهرة عرفها تاريخ البشر، وهي تجارة العبيد، فقد تم نقل الملايين منهم كقوى عاملة في الزراعة، مما نقل الملاريا والحمى الصفراء إلى سكان تلك المناطق في أمريكا، وهكذا فإن البشر لا ينتقلون وحدهم، بل تنتقل معهم -أحيانا- وفي رواحلهم أمراضهم ومسبباتها، ووسائطها الكامنة في أجسامهم، ويُذكر أنه تم نقل (30) مليون عامل من غرب افريقيا إلى الأمريكيتين بين القرن (17) والقرن (19)، مما جعل أمراض القارة السمراء ترحل بعيدا وتعشش في العالم الجديد.
بعد تفشي فيروس كورونا بهذا الحجم الخطير، وانتشار الرعب عالميا، أضحت صحة الناس شأنا عاما، يقتضي التدخل المباشر من السلطات في كل دولة، بما يترتب عليه من اتخاذ قرارات تفرض نمطا خاصا من الحياة على الناس، لا يُهتم بقبولها أو عدمه أمام المصلحة العامة، وربما يتعزز هذا الاتجاه بعد انتهاء جائحة كورونا بما ينعكس مباشرة على حركة البشر في التنقل، بحيث تخضع هذه الحركة لمزيد من الإجراءات والتدقيق، خاصة عمّا يحمله المسافر من مسببات المرض والعدوى، فهل تصبح الرفاهية والاريحية في السفر من ذكريات الزمن الجميل؟!.
الدوحة – قطر