النائب السابق غازي عليان
إقترب نصف الشهر الثاني للعدوان الصهيوني الغاشم على غزة، وقادة ما يسمى بالعالم الحر لا يزالون على مواقفهم الصامتة عن مجازر الكيان الصهيوني المجرم في غزة ، ويتباكون على هذا الكيان العنصري الصهيوني المحتل مرددين الجملة الممجوجة أن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، وهي رخصة قتل مجانية للفلسطينيين الأبرياء ولم تغير فيهم صور الآف الشهداء والجرحي وتدمير آلاف البيوت والمساجد والمخابز والكنائس للغزيين وصور الأطفال الجرحى والمرضى في المستشفيات الذين لا يجدون العلاج والطعام ولا الماء ولا الكهرباء، ولا صور شهداء فلسطين تنتشر على الطرقات بعد قصفهم إثناء نزوحهم من شمال غزة إلى جنوبها في مصيدة الموت الصهيونية، ولا أطفال الخداج ومرضى السرطان وغسيل الكلى الذين يموتون واحدًا تلو الآخر، والجوع والظمأ ينهشهم ولكن عميت أبصار العالم عن رؤية ذلك، وإذا تحدث أي رئيس أو مسؤول أمريكي بما يفيد غزة وفلسطين رد عليه النتن ياهو مهاجمًا، وأما إن تحدث مسؤول عربي أو رئيس مسلم فالرد من النتن ياهو تهديدًا ووعيدًا بتدمير عاصمة بلاده وكل ذلك يجري على مرأى من عيون الجميع دون أي اعتبار للقيم الإنسانية والأخلاقية وكأنها وضعت لكي نلتزم بها نحن لا غيرنا ، أما الكيان الصهيوني فهو معصوم عن كل مساءلةٍ .
نعم الشهر الثاني من العدوان ينتصف وأحياء غزة ومدارسها ومساجدها وكنائسها قد دُمرت ومحيت عن وجه الأرض، وجثث الشهداء الطاهرة المباركة تنهشها الكلاب في الشوارع لأنها لا تجد من يواريها التراب ، وعالمنا العربي والإسلامي يعقد القمم ويتخذ القرارات ولكنها تبقى حبيسة الأدراج فلا أحد يحفل بهم أو بقراراتهم، وهنا يستحضرني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوشِك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن فقال قائل يا رسول الله، وما الوَهْن قال حب الدنيا وكراهية الموت”.
وهاي هي كلاب البشر تنهشنا في المجتمعات الدولية والكلاب الضالة تنهش جثث شهداء الحق في شوارع غزة الأبية، وقد وقع هذا عبر التاريخ أكثر من مرة، ولكن هذه النبوءة تحققت في القرن الأخير وهذه الأيام بصورة أوضح؛ ولا تزال قوى الشرّ التي تمثلها الولايات المتحدة وبريطانيا بشكلٍ واضحٍ وجلي وفرنسا وبعض الدول الأخرى يمارسون كل سياساتهم لتدمير هذه الأمة، وامتصاص خيراتها، ونهب ثرواتها والقضاء على كل حركة للمقاومة والتحرر من الإحتلال.
ولكني أقول رغم ذلك المشهد المؤلم : يا أيها الوطن المضرج بالدماء، الموعود بالتجزئة والتقسيم كما أرادوا لك، لا تهن، فالفجر آتٍ لا محالة، والظلم مرتعه وخيم.
صحيح أن القمم تُعقد عربيةً وإسلاميةً وتصدر عن بياناتها الختامية عشرات القرارات التي تقف مع الشعب الفلسطيني في نيله لحقوقه وكسر الحصار وفتح الممرات الآمنة وإدخال الوقود ومعالجة الجرحى وفتح المستشفيات الميدانية والتهديد والوعيد للكيان الصهيوني إذا استمر في حربه ، ولكن يبدو أن إنتهاء القمة وصدور البيان هو كل العمل الذي يقومون به إذ لا محرك لهذه القرارات كي تسير على الأرض وتجد لها مكانا في أرض غزة لأنهم للأسف الشديد في غاية الضعف.
حتى الضفة تتوجع ويرتقي الشهداء من مدنها ومخيماتها وقراها ولا محرك لهذه السيطرة الصهيونية على هذا العالم ، فما الذي يحدث فعلاً؟، إلا أننا في مرحلة الهوان والخذلان.
وفي قضيةٍ أخرى إذا كانت شعوب العالم تتحرك وتخرج في لندن وإسبانيا وبلجيكا وبرشلونة وفي مدريد وواشنطن وباريس وفي كل المدن العربية بمئات التظاهرات يومياً تطالب بوقف الحرب وإنصاف أهل غزة ولا أحد يلتفت إليها، فهذا يعني أن الكيان الصهيوني ولوبياته تسيطر على العالم، وان كذبة العالم الحر أنتهت من قاموسنا إلى الأبد. وحتى إذا خرج مسؤول من البيت الصهيوني أو غيره ليعبر عن وجهة نظره بهذه الحرب الوحشية الإجرامية يخرج النتن ياهو ليقدم له درساً في كيفية الصمت وعدم التدخل في شأن إسرائيل أو تعليمهم حقوق الإنسان فهم خير من يعلم العالم حقوق الإنسان بالطريقة الصهيونية الإجرامية.
صحيح إنّ الحقّ بيِّن، ولا يختلف عليه اثنان، ولكنّ القويّ المتغطرسة في أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية الصهيونيه لا يريدون أن يعرفوا ولا يريدون أن يعترفوا ؛لأنّ الحقائق لديهم مقلوبة، والظلم في نظرهم عدل ما دام لا يمسَّ مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني المدلل الذي أنشأه ليكون قاعدة متقدمة تملك عناصر القوة والهيمنة والهمجية كلها؛ لإبادةشعب كامل.
إنّ الحقيقة المعروفة للجميع أنّ الكيان الصهيوني ما كانت لتقوم دولته، لولا تواطؤ قوى عظمى مع الحركة الصهيونية، وإسرائيل الصهيونية القائمة على الاستيطان والتوسع، بنت المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، والجولان السورية، ونقلت إليها مستوطنين يهود في محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع، ونكّلت بالفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة شرّ تنكيل، في محاولة منها لإجبارهم على الرحيل عن وطنهم، وهي تلقى الدعم غير المحدود على الصعد كلها من الدولة الأعظم في العالم، وأتباعها الغربيين، وهاي هي الحرب على غزة تكشف كل المشهد الدموي للكيان الصهيوني ومخططاته كافة
هكذا تبقى النكبة مستمرة، وتبقى المعاناة متدحرجة تكبر كل يوم ، من حصار خانق، وغضب عارم يجتاح الشعوب العربية والإسلامية قاطبة، وحرب طاحنة على غزة واقتحامات يومية للضفة الغربية وباتت المنطقة كلها على حافة الانفجار؛ نتيجة الواقع المأساوي الذي تعيشه غزة من خراب ودمار وقتل ونهب أموال وحرمان الشعوب من ثرواتها، والصورة باتت قاتمة حالكة السواد.
وإذا كانت أنظمتنا الرسمية باتت مقيدة بضغوط تفوق طاقتها مرّة، وبمعاهدات تقيد انطلاقتها مرة أخرى، فقد بات لزامًا على الأمة أن تنطلق من قيودها؛ لتبدأ في التفكير بشكل جدي عن طريق الحرية والديمقراطية الحقة، وعبر المتنورين والمفكرين من أبنائها لتشكيل إطار قومي، يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت؛ لأنّ الأمر بات خطيرًا، ونذر السقوط ما عاد يستهان بها.
إنّ الحرب الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ومسلسل العنف والتدمير والقتل والاعتقال، لن يجعل الشعب الفلسطيني أداة طيعة للتسليم بحلول لا تحقق الحد الأدنى من الطموح المشروع، فقد اتضح للجميع عبر سنين من التفاوض العبثي أنّ الحكومات الصهيونية المتعاقبة بيمينها ويسارها ووسطها لا تريد السلام، وليس لديها أي برنامج لتحقيق سلام في المنطقة، وقد هدفت من حروبها إلى إنشاء أحداث جديدة على الأرض لفرض مفهومها عن السلام، من خلال مجموعة من الشروط التعجيزية الرامية إلى إخضاع الشعب الفلسطيني وتهجيره ، وإرغامه على القبول بالاحتلال.
وأخيرًا فإنّ كل فعل مقاوم هو فعل مهم، سواء أكان شانه صغيرًا أم كبيرًا في إطار العمل الجماهيري المنظم الذي يمثل شكلًا من أشكال مقاومة الإحتلال، وتراكمات هذه الأفعال هي التي تؤدي إلى التحرير وطرد الاحتلال؛ لأنّه حتى يقام السلام الحق، فلا بد من أن يكون من خلال مسيرة نضالية وكفاحية جماهيرية واسعة، أي من خلال المقاومة الحقيقية في الميادين كافة، مهما طال الزمن، وتعددت المحاولات، سيظل الناس يقاومون الظلم بكل سبيل متاحة؛ كي لا تختلط المعاني، فيرى الناس الظلم عدلًا، والعدوان حقًّا، والاحتلال تحريرًا، وهدم القيم حضارة وتقدمًا، ودفع الظلم إرهابًا وتخلفًا، فالسلام الذي لا يقام على الحق والعدل لا يثبت، وقيمة الحق أكبر من قيمة السلام المجرد، وانتظار السلام من الكيان الصهيوني حلم بعيد المنال بحكم الواقع والمنطق.
وهنا يجب أن تدرك الدول العربية جميعها أنّها في مفترق طرق؛ إذ ثبت بالدليل العملي أنّ الدول الغربية لا تحترم الدول التي تفرّط في حقوقها الوطنية، أو التي تتردد في الوقوف في صف المواجهة، ولن تعيد علاقات دولة الاحتلال مع العرب دورهم المسلوب، فقد فقدوه غير مرة، وهذا الأمر لا يتعلق بالقضية الفلسطينية فحسب، بل يتعلق بسائر السياسات التي تتبعها الدول العربية أيضًا، ويخطئ الحكام العرب لو ظنوا أنّ ما حدث في الأيام الأخيرة أمر عابر؛ لأّن الأمر وإن اتصل بالقضية الفلسطينية فهو في حقيقته اختبار للإرادة العربية كلها، إذ يتضح أنّ الكيان الصهيوني، سيسعى إلى إثارة الأزمات الإقليميّة، واختلاق مزيد منها بأشكال متعدّدة، وليس أقدر على القيام بهذه المهام من نتنياهو وأشباهه؛ فإذا كان معسكر السلام والاعتدال الصهيوني قد جرّ المنطقة أكثر من مرة إلى أزمات حرجة تمثلت في الاعتداءات الإجراميّة على غزة، فإنّ اليمين المتطرّف سيكون مستعدًّا لأزمات أكبر وأكثر حدّة وخطورة؛ ما يضع الفلسطينيين والعرب أمام تحديات واستحقاقات جدّيّة، تتعلق بالواقع المفترض الذي تسعى الإدارة الصهيونية إلى فرضه، بكلّ ما فيه من أزمات متوقعة ومقروءة بدقة أيضًا، وهذا ما كشفته حرب غزة بعد معركة طوفان الأقصى المجيدة التي جائت ردًا طبيعيًا على سنوات طويلة من الإحتلال والذل والحصار والقتل والأسر للاطفال والشيوخ والنساء وموجات القصف اليومية وسياسة الإغتيالات لقادة المقاومة وعناصرها في غزة والضفة بل وخارج الحدود أيضًا.
وهنا، لا بد من الانتباه إلى حقيقة أنّ الكيان الصهيوني متأزّم، ويحمل عوامل هزيمته في داخله، والواقع القائم لن يستمرّ طويلا، وسيُجابَه برفض المجتمع الدولي، وبأزمات داخليّة، ستفضي إلى وضع آخر أكثر واقعيّة في التعامل مع الثوابت العربية تقوم على أساس حتميّة استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وهذه الحقيقة تشكل القاعدة التي يجب أنْ يبني عليها العرب سياساتهم، بما ينسجم مع متطلبات الأمن القومي العربي، واعتباراته الإستراتيجية، لتأمين سلامة الأرض العربية من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تؤدي إلى إخضاعها لسيطرة أجنبية، خاصة في ظل وجود أطماع استعمارية لا حدود لها في الثروات العربية، وتآمر غربي مع الكيان الصهيوني لتشتيت الأمة العربية وإضعافها؛ ما يصعّب إمكانية أي دولة عربية من المحافظة على أمنها ووجودها والدفاع عن استقلالها وكرامتها، ومواجهة الاستعمار الجديد بقواها الذاتية فحسب.
من هنا أصبحت الحاجة ملحة لانضواء الدول العربية في نظامٍ أمني عربي واحد، قادر على مقاومة الأعداء والمعتدين، فالأمن القومي العربي الشامل أصبح شرطًا لا غنًى عنه لتوافر الأمن الوطني لكل دولة عربية على حدة.