د عماد الزغول
في بلادٍ أرهقها الاستبداد، تحول الصمت إلى سمة جينية، وكأن الخوف استحال إرثًا ينتقل من جيلٍ إلى آخر. هذا هو حال سوريا، حيث خنق النظام الدكتاتوري حناجر المفكرين والمثقفين لأكثر من نصف قرن. في ظل هذا القمع، بات الصوت جريمة، والكلام شبهة، والتفكير بصوتٍ عالٍ خيانةً للوطن كما يُزعم. ثلاث أجيال عاشت تحت وطأة هذا الصمت الإجباري، فأدمنت حناجرها السكوت، ونسيت كيف تغني، كيف تبوح، وكيف تطالب بحقوقها.
الطائر الذي لا يعرف أنه يملك حنجرة هل يمكن لطائرٍ أن يغرد إن لم يكن يعلم أن لديه حنجرة؟ هذا هو السؤال الذي يصف بدقة واقع السوريين الذين عاشوا تحت قبضة النظام الدكتاتوري. حين تُقمع الحناجر وتُصادر الأصوات، يتلاشى الإحساس بالحرية تدريجيًا، حتى يصبح السكوت طبيعةً متأصلة. جيلٌ تلو الآخر، تعلم السوريون أن الصمت هو النجاة الوحيدة، وأن الصوت الحر ثمنه باهظ، يُدفع من أرواحهم وأرواح أحبتهم.
لم يكن النظام بحاجةٍ إلى سجن كل من حاول أن يتكلم؛ فقد أوجد نظامًا نفسيًا ومجتمعيًا يُكمم الأفواه دون أوامر مباشرة الخوف كان يكفي. الخوف من الكلمة، من الفكرة، من مجرد التفكير في الخروج عن النص الرسمي. فكانت النتيجة أن نشأ جيلٌ كامل لا يعرف أن حنجرته صُنعت لتغني.
المفكرون بين المطرقة والسندان كان المفكر السوري، شأنه شأن أي صاحب عقل، مُطالبًا بالاختيار بين الصمت أو التسبيح بحمد النظام. في ظل الدكتاتورية، يصبح المفكر خطرًا، لأنه يحمل سلاح الفكر والكلمة. لهذا، وجد كثيرون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التطبيل للنظام، أو مواجهة مصيرٍ مجهول.
حتى أولئك الذين حاولوا الاحتفاظ بالصمت بدلاً من التسبيح بالنظام لم يسلموا من الاتهامات. ففي ظل الأنظمة الاستبدادية، الصمت ليس خيارًا آمنًا؛ بل قد يُفسر كرفضٍ ضمني أو تمرد خفي. لذلك، لجأ بعض المفكرين إلى مدح النظام كوسيلة للبقاء على قيد الحياة، بينما ضمر فكر آخرين تحت وطأة الخوف، وتحولوا إلى رموز خاوية لا تستطيع حتى التفكير في الاعتراض.
الإرث الثقيل للأجيال القادمة ثلاثة أجيال عاشت في هذا المناخ القمعي. الجيل الأول، الذي شهد صعود النظام، تعلم أن الصمت ضرورة للبقاء. الجيل الثاني، وُلد في ظل الخوف، وتربى على ثقافة الرقابة الذاتية. أما الجيل الثالث، فقد ورث الخوف كإرثٍ ثقافي واجتماعي، ولم يعد يدرك أن الحرية حق، وأن الحنجرة خُلقت للبوح.
وفق قانون الإهمال والاستعمال، ما لا يُستخدم يضمر ويتلاشى. وهكذا، أصاب الضمور حناجر السوريين، ليس فقط جسديًا، بل نفسيًا وفكريًا أيضًا. لم يعد الصوت الحر خيارًا متاحًا، بل تحول إلى حلمٍ بعيد المنال.
هل يمكن للحنجرة أن تتعلم البوح من جديد السؤال الأكبر الآن: هل يمكن للسوريين أن يستعيدوا حناجرهم التي أدمنت الصمت؟ هل يمكن لطائرٍ لم يعرف يومًا أنه يملك حنجرة أن يتعلم التغريد؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها ممكنة.
الحرية ليست مجرد حق قانوني؛ إنها مهارة تُكتسب وتُمارس. الأمر يحتاج إلى إعادة بناء جذرية للنفسية الجمعية، تعليم الأجيال الجديدة أن الخوف ليس قدرًا، وأن الصوت هو وسيلة للتعبير عن الذات والمطالبة بالحقوق. يحتاج الأمر إلى بيئة حاضنة للحرية، تتيح للناس استعادة الثقة في أصواتهم، وفي قدرتهم على التغيير.
حناجر السوريين ليست ميتة، لكنها بحاجة إلى وقتٍ لتتعافى. الصمت الذي استمر لعقودٍ طويلة قد يُخيف الطائر من التغريد، لكنه لن يمنعه إلى الأبد. يومًا ما، سيكتشف السوريون أن لديهم حناجر، وأن تلك الحناجر قادرة على الغناء، على المطالبة بالحقوق، وعلى صياغة مستقبل جديد. حتى ذلك الحين، يبقى الأمل معقودًا على أن الحرية، وإن تأخرت، قادرة على أن تُحيي الحناجر التي أدمنت الصمت ونسيت البوح.