رمزي الغزوي
عندما ضبطني أبي رحمه الله أمصُّ سيجارةً أطولَ مني، كنتُ أختلستُها من علبته بإغراء من شخيره العالي؛ جنَّ جنونه، وهو يراني مغموراً بسحابة دخان في ظل السور، فصفعني على ظهر يدي، فهربت مولولاً إلى بيت جدي، بعد أن جمعت ثيابي وألعابي.
استقبلني جدي بحنانه المُصفَّى؛ فتباكيت على وسادة صدره مُحشرجاً راوياً أفياء قصتي الدخانية، حسب مقتضيات خيالي المُكبِّر؛ فمسح دمعي بطرف كوفيته، واعدا بأخذ حقي بالصاع الوافي من أبي حين يراه، ثم فتح علبة الهيشي (التبغ البلدي)، وراح يلفُّ لي سيجارةً برؤوس أصابعه لفاً يشبهُ تقميط طفل رضيع.
أنت رجل. هكذا قال لي برزانة: والرجل يدخنُ، ويتحملُ ثمن رجولته، فهززت رأسي ناشقاً بواقي دمعتي وسيلان أنفي، ومن بعيد تتوسله جدتي، أن يتركني وشأني، فالسيجارة ستقضي عليَّ.
أشعلها بهدوء وسحب منها نفساً طويلاً ثم قدمها لي، فتناولتها بزهو وسحبت نفساً عميقاً، فجحظت عيناي، كحبتي فطر، وازرق خاتمُ شفتيّ، وحسبتني لن أعود إلى الحياة. بعدها طبَّل جدي على دفة ظهري، شاتماً الدخان ومكتشفه وزارعه. وعندما عادت لي جذوة حياتي، سألني بطريقة المعلم الحاذق: هل ستدخن ثانية أيها (الزلمة) الصغير؟!.
وربما كانت هزهزة رأسي لجدي تكفي لتردعني عمراً أو عمرين، عن براثن السيجارة وخبثها، لكني ما أن إخضرَّ شاربي وغلظ صوتي، حتى انجرفت إليها مرة أخرى، ضارباً عرض الحائط وعدي لجدي، ألا أدخن ثانية.
يوم أمس احتفلت بالذكرى السنوية لتركي التدخين. فقبل خمس وعشرين سنة قررت قراراً بائناً بينونةً كبرى أن أطلّق هذه العادة (هو عادة وليس حاجة) بعد معاقرة دامت أعواما عشرة. تركته بطريقة سميتها (ضربة السيف)، أي بلا مقدمات أو التفافات، ودون تخطيطٍ أو تخفيفٍ أولي من علبتين إلى علبة إلى بضع سجائر!، ودون استخدام العلكة والأدوية ومعاجين الأسنان.
فقط أطفأت عادتي بإشعال فتيل إرادتي؛ وإمعاناً بالتحدي والصراع مع نفسي أبقيت عنق سيجارة مطلاً من علبته على طاولتي وأمام نواظري لأيام عديدة، وكان لي ما أردت!. وإذا كنت سأعتز بشيء فعلته بحياتي يجلب لي فخرا شخصياً، فتركي للسيجارة بهذه الطريقة الباترة سيكون هذا الشيء.
أجدها اليوم مناسبة مواتية أن ننظر إلى فاتورتنا التبغية. أين وصلت وكم نحرق من الملايين؟!. وإلى أطفالنا المدخنين، والآباء القدوة الذين لا يتوانون عن التدخين في حضرة أبنائهم وطلابهم، وننظر إلى حجم الأمراض ونسب السرطانات التي تقتلنا. وإلى المدخنين الذين لم يدركوا معنى فرض أذاهم على الآخرين دون حسب حساب لقانون. وهي مناسبة أن يكون اليوم فرصةً جديدة لمن أراد أن ينعم بالحياة ومذاقها الحقيقي بلا سجائر. فقط جربوا ضربة السيف.