أُسَيْد الحوتري
قام الكاتب الأردني سامر حيدر المجالي في روايته (المؤابي)، الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون وعن وزراة الثقافة الأردنية، قام بتسليط الضوء على ثورة الكرك التي اندلعت في الرابع من شهر ديسمبر عام 1910؛ كما وتطرّق إلى أحوال الدولة العثمانية قبل وقوع الثورة، وما آلت إليه الأمور بعدها.
عرض الكاتب سامر المجالي أحداث ثورة الكرك من زاوية مختلفة عما يتم تقديمه عادة عند التطرق لهذه الثورة، حيث جرت العادة أن يتم النظر إليها من زاويتين متضادتين لا أكثر. وجهة النظر الأولى تدين الثورة، وتعتبرها خروجا على دولة الخلافة العثمانية وتنكرا لبيعة السلطان محمد رشاد خليفة المسلمين. وهذا الرأي وضحه المجالي في روايته فذكر أن الشيخ غالب بن عويّد اعتبر”أن في هذه الثورة خروجا على دولة الخلافة ونصرا لأعدائها عليها”، (المؤابي: 167). كما “[و] رأى [ابن عويد] أن بيعته للخليفة لازمة له، ولا يمكنه أن يتخلى عنها”، (ص: 168). أما وجهة النظر الثانية فتمجّد الثورة، وتقدمها على أساس أنها ثورة على الدولة العثمانية المستبدة والظالمة، وهذا ما يظهر على لسان شخصية فارس بن الشيخ عدنان حيث يقول: “تبا لطبائع هذا الاستبداد ما أشنعها”! (ص: 67)؛ وهنا تُصوَّر ثورة الكرك كحركة تحرر من استبداد الدولة العثمانية التي استغلت العرب وأساءت إلى عزتهم وكرامتهم وشرفهم، وهذا ما أكدته شخصية الشيخ حامد حين وقفت وسط الرجال وصاح: “أليس فيكم دم عربي؟سينهبون أموالكم، ويسوقون أولادكم إلى الجحيم، لن أعطيهم شيئا ولو كلفني ذلك روحي” (ص: 67).
مع ذلك فقد نظر المجالي إلى ثورة الكرك من منظور ثالث يردم الهوة الممتدة بين وجهتي النظر السابقتين، منظور سُكِتَ عنه طويلا ولكن تم تسليط الضوء عليه مؤخرا في هذه الرواية. ففي بداية (المؤابي) قام المجالي بتقديم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بصورة طيبة زاهية، حيث “كانت الأمور أيام عبد الحميد على ما يرام”، (ص: 35). وأوضح الكاتب كيف أن السلطان مد يده للعشائر، وأشار إلى تحسّن طباع الولاة والموظفين الوافدين إلى مضارب العشائر، كما وذكر مشروع السكة الحديدة الذي سيعود بالخير على أهل الكرك لمساهمته في تنشيط التجارة فيها، وأهميته في تسهيل حركة تنقل الأفراد هناك. كما أكد المجالي على أن السلطان عبد الحميد كان مختلفا عن من سبقه من السلاطين، فلقد كان “السلطان عبد الحميد الثاني يحترم العرب…[و] تهمه جبهته الداخلية قبل كل شيء [وأنه] تقرب إلى شيوخ العشائر العربية، وسعى إلى الالتقاء بهم في اسطنبول، مجموعة وراء مجموعة”، (ص: 36). كما ويذكر المجالي أن عبد الحميد الثاني قد وجه دعوة لبطل الرواية مخاطبا إياه باسم “عدنان بن كريّم المؤابي”، (ص: 37)، فتعجب الشيخ عدنان من إضافة “المؤابي” إلى اسمه واعتقد بأنها “تسميات إدارية جديدة تنتهجها الدولة”، (ص: 37)، ومن هنا يولد اسم الرواية: (المؤابي)، وكأن السلطان عبد الحميد الثاني هو من أطلق على الرواية اسمها. كما وعدد المجالي بعضا من منجزات عبد الحميد الثاني الذي قام بتشييد الأبنية في الحواضر، “وأسواقا جديدة، وأنشأ مدارس كثيرة، وعبّد الطرق، وحسّن من مستوى الخدمات”، (ص:36). بعد ذلك يصف المجالي لقاء السلطان عبد الحميد بالشيخ عدنان بن كريّم والذي وصف السلطان قائلا:”حدثنا بالعربية فهو يتقنها كما لو أنه واحد من أهلها”، (ص: 39). وهنا إشارة إلى أن السلطان عربي، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول في حديث مرسل يرويه ابن عساكر:”…وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، فإنما هي لسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي”. فالعروبة لسانا وليست عرقا. وأنهى السلطان حديثه بالتأكيد على أنّ “خط الحديد الحجازي سيربط العالم الإسلامي بالحرمين الشريفين وهذا سيعمق أواصر المحبة بين شعوب السلطنة كي تبقى السلطنة قوية…ولا فرق بين العثمانيين مادامت تجمعهم رابطة الإسلام”، (ص: 40). ومن الأعمال التي اختص بها السلطان العشائر العربية أنه دشن لهم في اسطنبول مدرسة خاصة بهم “لتأهليهم في مجالات الإدارة والسياسة والعلوم العسكرية”، (ص:41). ولقد رشحت شخصية الشيخ عدنانُ سلامةَ بن زعل للدراسة في هذه المدرسة. من كل ما سبق نرى أن المجالي أكد على عدل وسماحة السلطان عبد الحميد الثاني في الفترة التي كان يحكم بها الدولة العثمانية.
ولأن دوام الحال من المحال، تدهورت الأحوال في اسطنبول، وتم الانقلاب على عبد الحميد الثاني من قبل ضباط وعساكر ارتبط جزء منهم بشكل وثيق بالقوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية، وبالمحافل الماسونية و”التي ساهمت في إسقاط السلطان عبد الحميد”، (ص: 159). وهكذا تم عزل عبد الحميد الثاني، لينتهي العهد الذي كان يحكم فيه العثمانيون، وليعيّنَ محمد رشاد، شقيقُ عبد الحميد الثاني، سلطانا صوريا مجردا من كافة الصلاحيات، سلطانا لا سلطان له ولا حول ولا قوة؛ ولتتولى إدارةَ البلاد (جمعيةُ الإتحاد والترقي) التي أُسست في العاصمة الفرنسية باريس. تجدر الإشارة هنا إلى أن منتسبي هذه الجمعية أتراك ولكن لا ينتمون إلى السلالة العثمانية. لقد عُرف الإتحاديون “بعنصريتهم وسعيهم للاستئثار بالسلطة، واستبعاد الشعوب الأخرى لا سيما العرب، عن حقهم في المشاركة في الحكم”، (ص: 93). كان الفكر السياسي لجمعية الاتحاد والترقي يؤكد على المفاهيم الطورانية المشتق اسمها من جبل (طوران) الواقع شمال شرق إيران والذي يعتبر الموطن الأصلي للأتراك. حمل الاتحاديون أفكارا عنصرية فاعتبروا الأتراك أقدم أمم الأرض، وأعظمهم مجدا، وأرفعهم شأنا، وأسبقهم في الحضارة. ودعا الحزب إلى تأسيس الجامعة الطورانية لتضم كل الشعوب المنحدرة من العرق التركي، ودعوا أيضا إلى الاتحاد مع المغول لأن الترك والمغول من أصل واحد. كما وكان شعار الاتحاديين عدم التّدين إلا إنْ خَدَمَ التّدين القومية الطورانية. عَمِل الاتحاديون أيضا إلى إحياء الوثنية التركية، كالوثن التركي القديم: الذئب الرمادي (بوزقورط) Bozkurt، فوضعوا صوره على طوابع البريد، وكتبوا فيه الأناشيد، ولغرس هذا الشعور العرقي العنصري في قلوب الجنود الأتراك، تم إلزام الجيش التركي بأداء أناشيد (بوزقورط) عند كل غروب شمس في طقس وثني يواجه شعيرة صلاة المغرب. كما هجر الاتحاديون وتنكروا لقدوتهم من المسلمين الصالحين، واتبعوا ما كان عليه الأبطال الوثنيين من الأتراك والمغول مثل: (أتيلا)، (وجنكيزخان)، (وتيمور لنك) وتغنوا بهم وببطولاتهم على فظاعتها وقباحتها في حق الإنسانية. تجدر الإشارة أيضا إلى أن كثير من اليهود الأتراك هم من روجوا لفكرة الطورانية، ولقد كتب اليهودي (موئيز كوهين) ثلاث كتب اعتمدت لدى جمعية الاتحاد والترقي وهي: (ماذا يمكن أن يكسب الأتراك من هذه الحرب؟)، (الطوران)، و(سياسة التتريك). لقد قطع هذا التوجه العنصري لدى الاتحاديين حبل الصلة والمودة مع باقي شعوب السلطنة، فكما يفخر الأتراك بعرقهم، ستفخر شعوب السلطنة بأعراقها أيضا، وهنا ستكون السلطنة مكانا للفرقة والخلاف والصراع لا حبلا لله يعتصم به الجميع. ومع وصول (جمعية الاتحاد والترقي) إلى السلطة، قام الاتحاديين بمجموعة من الخطوات التي أضرت كثيرا بشعوب الدولة العثمانية، فلقد كان الاتحاديون على عداء مع أنصار السلطان المعزول عبد الحميد الثاني، وعلى عداء مع (حزب الحرية والائتلاف) التي وصل بالفعل إلى سدة الحكم ولكن انقلب الاتحاديون عليه وتقلدوا الحكم بدلا عنه. كما وكان الاتحاديون على عداء مع القوميين العرب و”نجح الاتحاديون في إرهاب معظم خصومهم في دمشق وغيرها من الولايات. كانوا يضربون بلا هوادة، فأي صوت معارض هو هدف للتصفية”، (ص: 63). كما عانى الناس من “كل أشكال المرارات، كراهية وضرائب وحروب. آلاف من شباب العرب ذهبوا في الحملة التي أرسلها العثمانيون [الاتحاديون] لإخماد ثورة الإمام في اليمن فلم يعودا، وآخرون قضوا في ليبيا أثناء هجوم الطليان على طرابلس”، (ص: 65). وفوق كل هذا اتخذ الاتحاديون مجموعة من القرارات الظالمة والمستفزة وأرادوا تطبيقها على العشائر، وكانت هذه القرارات تتمثل في: جمع السلاح من الأهالي، تجنيد كل من بلغ سن العشرين من الذكور، قرار إحصاء النفوس، التوقف عن دفع المخصصات لشيوخ العشائر وتجريدهم من مناصب شرفية كانت لهم أيام السلطان عبد الحميد الثاني. كانت هذه الحزمة من القرارات الشعرة التي قصمت ظهر البعير، والشرارة التي أشعلت نار الثورة، فاندلعت ثورة الكرك ضد الاتحاديين وضد ما يحملونه من أفكار عنصرية هدامة لا تعود على شعوب الدولة إلا بالضرر والضّرار، و”خرج الفريقان؛ الدولة والعشائر من الثورة بخسائر فادحة”، (ص: 44). ومع ذلك فلقد حققت الثورة أهدافها “إذ لم تمض الدولة في قرار التجنيد فعلقته بشكل غير معلن، وتغاضت كذلك عن قرارها بجمع السلاح”، (ص: 147).
ولقد سبقت الثورةَ الكركية ثورةُ جبل الدروز في حوران والتي قمُعت بالحديد والنار، وتبعتها الثورةُ العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي، كل هذه الثورات لم تكن بأي شكل من الأشكال ثورة على دولة الخلافة العثمانية بل كانت رفضا صريحا لحكم (جمعية الاتحاد والترقي) الطورانية العنصرية التي تخلّت عن فكرة الأمة التي دعا إليها الدين الحنيف، والتي انقلبت على خليفة المسلمين الشرعي عبد الحميد الثاني آخر سلطان فعلي في الدولة العثمانية. هذا وكانت هذه الثورات أيضا رفضا لسياسات وقرارات الاتحاديين التي زرعت الفرقة والبغضاء والكراهية بين شعوب الدولة العثمانية. وختم الاتحاديون عهدهم البائس بطامة كبرى، فلقد ورطوا الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تلك الحرب التي لا ناقة لشعوب الدولة فيها ولا بعير، تلك الحرب التي كان من نتائجها سقوط الدولة العثمانية واحتلالها من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية، وتقسيم الدولة العثمانية إلى دويلات ضعيفة خضعت للاستغلال والاستعمار، كما واستشهد ثلاثمائة ألف من أبناء الدولة العثمانية. وبعد فترة من الزمن تم إلغاء دولة الخلافة الإسلامية التي كان أعداؤها يحسبون لها ألف حساب. لقد تمكن الاتحاديون بفضل سياساتهم الخرقاء من تحطيم الدولة العثمانية في ثمان سنوات فقط (من 1909 إلى 1918). لم يكن الاتحاديون إلا” مجموعة من الأوغاد الذين استولوا على السلطة ووضعوا سلطانا وهميا كي يجعلوه غطاء لأطماعهم”، (ص: 200).
وهكذا وضح لنا سامر حيدر المجالي في روايته (المؤابي) أن ثورة الكرك لم تكن خروجا على بيعة السلطان محمد رشاد، لأن هذا السلطان لم يكن إلا سلطانا صوريا معينّا من قبل الاتحاديين. كما أن ثورة الكرك لم تشتعل بسبب استبداد وظلم الدولة العثمانية، لأن الدولة التي قامت الثورة ضدها لم تعد عثمانية بَعْدَ استيلاء الاتحاديين العنصريين على سدة الحكم. وهنا تؤكد (المؤابي) أن ثورة الكرك كانت ضد استبداد الاتحاديين الطورانيين العنصريين الذين انقلبوا على الحكم العثماني واختطفوا الدولة، واستولوا عليها بالسيف، وقطعوا حبل الله الذي كانت تعتصم به كل الشعوب العثمانية، ففرقوا وسرعان ما تفرقوا.