د.حسام العتوم
كل من شاهد العرض العسكري البحري الروسي في مدينة سانت بيتر بورغ شمال موسكوا العاصمة بتاريخ 26 تموز 2020 أصيب بدهشة المكان والعرض وقوة شخصية الرئيس بوتين .
والمدينة هي الأجمل على خارطة العالم بشهادة كل من زارها وأنا منهم ، وهي متحف تاريخي ساحر مفتوح محاطة بقصور تاريخية مطلية بالذهب الخالص وحجر الينتار الثمين، وشاهدة على العصر منذ زمن القياصرة الكبار ايفان الرابع 1541 ، وبطرس الأكبر 1721 ، وغزوة نابليون بونابارت في عهد القيصر الكسندر الأول 1812 ، والقيصر نيكولاي الثاني في القرن 20 ، وعائلة رومانوف المالكة 1613 ، والثورة البلشفية 1917 . ومطلة على بحر البلطيق الجميل، ونهر النيفا يخترق جوفها وتزدان بجماله .
وعرضها البحري العسكري العملاق هذا العام كان جميلا ومهيبا حقاً ومثل الفيدرالية الروسية كقطب عظيم ودولة عظمى . وبالمناسبة؛ فإن عظمة روسيا لاتقاس بقوتها فقط والتي أصبحت تعادل قوة حلف الناتو مجتمعاً، وربما تتفوق عليه سراً بما تملك من تكنولوجيا عسكرية متطورة، وترسانة نووية ضخمة لا مثيل لها في العالم تقدر بحوالي 7000 الاف رأس نووي حسب جمعية مراقبة الأسلحة، وهي لغايات الردع و ليس الاستخدام بطبيعة الحال .
ولم تمتلك روسيا في أربعينيات القرن الماضي في الزمن السوفييتي، وتحديداً إبان الحرب الوطنية العظمى 1941 1945 قنبلة نووية بالمقارنة مع أمريكا التي امتلكتها عام 1945 ، بينما ظهرت في الاتحاد السوفييتي بقيادة روسيا عام 1949 بعد الحرب . وفي الوقت الذي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في اليابان فوق هيروشيما وناكازاكي نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن السوفييت ومنهم الروس لو امتلكوها لما استخدموها حسب تتابع تصريحاتهم حتى يومنا هذا، وقالها الرئيس فلاديمير بوتين لإعلام بلاده، ولفت الانتباه حديثاً لدور القوة النووية الروسية في الردع، ومنع حدوث حرب عالمية ثالثة بعد مرور 75 عاماً على النصر السوفييتي الساحق على النازية الألمانية بقيادة أودولف هتلر عام 1945 . وروسيا أيضاً من كبريات دول العالم التي ترفض الحرب الباردة التي فرضها عليها الغرب بقيادة أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد الاختلاف على تقاسم مغانم النصر، ولمنع تغلغل السوفييت في العالم كونها قوة عظمى منتصرة . وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 استفردت أمريكا بإعلان القطب الواحد المسيطر على سياسيات العالم واقتصادياته، وبالتعاون من منظمة ( الايباك ) اليهودية – الصهيونية – الأمريكية التي تأسست عام 1953 . وأعلنت روسيا عالم الاقطاب المتعددة، معتبرةً أمريكا قطباً عظيماً فقط إلى جانب أقطاب، وأقطار العالم .
وتعد روسيا من أكثر دول العالم تمسكاً بالقانون الدولي، وبأوراق الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمحكمة الدولية في لاهاي . و ترفض سياسة الكاوبوي الأمريكية من منطلق القوة لا الضعف، وتقابل الحرب الباردة المستمرة بالند للند، وتستوعب المماحكات الغربية الأمريكية، ومنها العقوبات عليها، ولموقفها خاصة من أوكرانيا، ورغم وقوف روسيا بقوة مع اتفاقية ( مينسك ) الضابطة لأمن أوكرانيا، والمانعة لاستمرار الحرب الداخلية فيها، وتمسكها بأقليم القرم المرتبط بعمق التاريخ الروسي، ولموقعه الاستراتيجي النووي بحكم تموضع أسطولها في البحر الأسود على شواطئه، وللانقلاب السياسي الذي احدثه الرئيس الاوكراني بيترو بارشينكا، والتيار البنديري المتطرف عام 2014 . وتمد يد العون والمساعدة لأمريكا، ولإيطاليا خلال هذا العام 2020 وسط أزمة كورونا، واستقبلت العون الأمريكي في مجال مكافحة كورونا في المقابل بصدر رحب . وتقدم منحاً دراسية لدول العالم الفقيرة بغض النظر عن ميولاتها السياسية سواء كانت صديقة لروسيا أو لأمريكا تحديداً وتبرم عقوداً اقتصادية بمليارات الدولارت مع دول العالم من دون الحاجة لافتعال الأزمات، أو التخويف والترهيب من احتمال اعتداء دولة على أخرى، كما تفعل أمريكا مثلا التي أرعبت العرب من إيران وباعتهم أسلحلة بمبالغ ميليارية ضخمة، بينما هم أي العرب بحاجة لها لمواصلة بناء تنميتهم الشاملة (الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية ) في زمن انتشار الأمية والفقر والبطالة وشح المياه وتلوثها والفساد .
والعرض العسكري الروسي البحري العملاق هذا العام تقليد عسكري عمره ثلاثة عقود خلت، منذ الحرب الروسية السويدية، أي تحديداً منذ عام 306 ، وتم إعادة العمل به عام 2017 واستمر تقيلداً عسكرياً مهيباً يتماهى مع العرض العسكري السنوي للجيش الروسي الأحمر في الساحة الحمراء في موسكو العاصمة بمناسبة أعياد النصر السوفييتي على الفاشية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية . وفي روسيا جيش وبحرية ولا تحالفات عسكرية منذ تفكيك حلف وارسو العسكري ( 1955) الذي قابل حلف الناتو( 1949) وقتها . وحساسية مفرطة بين قوة النار الروسية العسكرية والبحرية والفضائية وبين مثيلتها في حلف الناتو ، وروسيا لا تسمح للناتو من الاقتراب من أراضيها من جهة أوروبا، ولا من جهة أوكرانيا ولا من جهة اليابان .
وتعلمت روسيا درسا وطنياً وقوميا بعد خسرانها لأقليم ( الاساكا ) عام 1867 الذي باعه القيصر الكسندر الثاني لأمريكا في عهد الرئيس الأمريكي اندرو جونسون بسبب تبعات حرب القرم بين الأمبراطورية الروسية والدولة العثمانية عام 1853 واعتبرت عملية البيع وما زالت خطأ تاريخياً سيادياً يصعب تكراره .
والملاحظ في احتفالية البحرية الروسية الرائعة هذه في مدينة ( سانت بيتر بورغ ) أنها جرت في ظرف جائحة كورونا، ورغم تسجيل روسيا لحوالي عشرة الاف إصابة كورونا يومياً مع الأخذ بعين الاعتبار المقارنة مع مساحة روسيا التي تشكل سدس العالم، وعدد سكانها الذي يقترب من 150 مليون إنسان , ومع عدد وفيات كورونا الاخفض في العالم وقارب الخمسة الاف حالة إلا أن الحضور البشري الروسي للاحتفالية فاق التوقعات، ولم يتم الالتزام بقاعدة التباعد، ولا بشرط ارتداء كمامات السلامة العامة، ولا واقيات للايدي تحت درجة حرارة 35 درجة مئوية . وما زال الأردن كمثال يعتبر روسيا على قائمة الدول الحمراء لغايات فتح المطارات معها، وتمكنت روسيا في المقابل من اكتشاف مضاد حيوي مكافح لكورونا يسمى بـ ( افيفافير ) ويتم الآن تجريبه في روسيا، وفاعليته وصلت إلى 80% .
وروسيا القوية عسكرياً على المستويات التقليدية، والنووية، والفاضائية، وعلى مستوى تمسكها بالقانون الدولي، والشرعية الدولية، قادرة على احداث توازن وسط الحرب الباردة، ومع أمريكا بالذات المنحازة علناً لإسرائيل الشريرة، بهدف لجم الحراك التوسعي الاحتلالي، والاستطياني الإسرائيلي، وما يتعلق بمشروعها المؤجل حالياً الخاص بالتوجه لضم الغور الفلسطيني ومنطقة شمال البحر الميت، وعلى مراحل . وهو المشروع المرفوض فلسطينياً وأردنياً وعربياً وعالمياً بالعموم خاصة في أوروبا . وجهد كبير في مواجهة عملية الضم غير الشرعية والمستنكرة، بذله جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين ” حفظه الله ” عبر جهود محلية، وإقليمية، و دولية، ومنها من خلال اتصالات جلالته مع الكونغرس الأمريكي، وموسكو وأوروبا . وهدف الأردن والفلسطينيين سلطة ومقاومة و العرب انجاح خيار حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة تكون القدس الشرقية عاصمة لها، مع التمسك بحق العودة والتعويض، والمحافظة على الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس والعمل على تجميد الاستيطان الاسرائيلي غير الشرعي على الأرض العربية . وفي المقابل تفعيل معاهدة السلام الأردنية – الاسرائيلية الموقعة عام 1994 بهدف الاشتراط على إسرائيل لكي تلتزم بحدود الرابع من حزيران لعام 1967 ولكي تنهي احتلالها للجولان ( الهضبة السورية العربية المحتلة منذ عام 1967) وللخروج من مزارع وتلال شبعا المحتلة أيضاً منذ عام 1967 ولكي تحترم مخرجات السلام مع الأردن في الحلول النهائية .
ولا سلام إسرائيلي ممكن مع العرب خارج الالتزام بنداء قمة العرب في بيروت، الذي قاده آنذاك ولي العهد السعودي الملك لاحقا عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، الذي طالب إسرائيل من خلاله وباسم كل العرب الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران لعام 1967 مقابل سلام كامل وشامل يرضي الطرفين العربي وبكامل عمقهم الايدولوجي الإسلامي والمسيحي، وإسرائيل.