في المقهى البحري العتيق على شاطئ يافا كان يجلس أبي و صحبه يثرثرون و البحر و حورياته اللاتي كن يخرجن يبتسمن لحكايات الرجال و يشربن ماء محلى ، كانت ” دكة ” المقهى ترتفع قليلا عن الماء ترتطم الموجات بقوائمها بهدوء مخادع لتفاجئهم و ترشقهم مداعبة وهم يرتشفون قهوتهم و يحدثون صبايا البحر عن مغامراتهم في قطار مصر، و عرائسهم التي تنتظر، و ألف حكاية رسمت خيال طفولتي وكتبتها بفتات السكر. في مرضه الأخير زاره أحد الأصدقاء في عمان فلما عرف فيه البحر صرخ مناديا و العبرات تنسكب من عينيه :” هيي يا يافا هيي ” ، رشفت عبراته و أودعتها قلبي لعلني أقف على شاطئ يافا و أوصل الرسالة ، و يأتي “نيرون ” العصر ليعلن أن لا حق ولا عودة ، يريد أن يحرق روما مرة أخرى و العالم! سار بنا أبي من المخيم باتجاه عمان مشيا على الأقدام مثلما سار مع جدي و جدتي بين روابي القدس و وديانها باتجاه الشتات ، كان يسير و ينظر إلى الخلف ثم يتركنا نمضي لوحدنا و يعود أدراجه و كأنه يسترجع الطريق حتى لا ينسى إذا عاد طريق العودة ، في إحدى جولاته سبقتنا والدتي وتاهت عنا و قد كانت تحمل صرة كبيرة على رأسها ليس لنا فيها إلا بعض البيض المسلوق لم نذقه أو نراه فقد أكلتها دجاجات الحارة بعد أسبوعين في عمان . بقي أخي ابن الخامسة عشرة يحرسنا و احتار بنا عندما غارت علينا طائرات العدو ترشقنا بالرصاص و النابالم و تحصد الأحلام و الأرواح لكن الذكريات تعززت بالنار و الدم و الموت ليكون الإصرار كبيرا و طريق العودة مزروعة فينا حق لن تنساه الأجيال رغم أحلام نيرون. لحق بنا والدي و سار بنا إلى عمان لنلتقي بوالدتي بطريقة عجائبية ويستمر التيه سنوات في الجزيرة العربية، دفن والدي في مقبرة ” أم الحيران” وجدتي قربه بينهما سطر قبور و أربعون يوما، لكن جدي كنا قد زرعناه في القدس قرب باب الساهرة , لا شك أن في أعماق الأرض قنوات للتواصل بينهم كعروق القلب كما يحدث للذين فوق الأرض فإذا نبض قلب في القدس رد عليه قلب عمان مواسيا. ربما لا يطول بنا المقام حتى نكون بينهم لكن أبناءنا من بعدنا يحملون لنا المشاعل ويعيدون رسم الطريق ، ربما تزداد الخطوات خطوة أو اثنتين إلا أن زريف الطول سيعود حاملا بارودته بيد و بالأخرى ممسكا يد جفرا تحمل غصن زيتون و زعترا و دحنونا. و الأردن وطن و شعب و أرض و نهر و ملك هاشمي موصول بالسماء نرفض المساومة لا وطن بديل ولا توطين وسيبقى لنا الحق في العودة و القدس عربية الهوى و الهوية تنعم بالوصاية الهاشمية التاريخية ، شاء من شاء و أبى من أبى و ستبقى عمان و القدس تقاومان رغم اشتداد المعركة ، قد تهتز السنديانة قليلا إلا أنها ثابتة في و جه الريح. هذه السنديانة التي تمتد جذورها شرقا و غربا و شمالا و جنوبا ، خالتي في وادي رم ترصع السماء نجوما و مجدا ، و جدي الأكبر في الكرك لا تمل عيناه من القراءة في الكتاب المقدس كان يحج ماشيا على قدميه منذ أجيال إلى كنيسة القيامة، وابن أخي في أقصى الشمال تجول عيناه في فضاءات بلاد الشام و قلبه إلى الأقصى، كلهم هنا مرابطون منذ قروون و من هنا سينطلقون لإعادة بهاء القدس.