سعيد الصالحي
لم أزر فلسطين إلا من خلال ذكريات من عاشوا فيها، ولم أشتم ترابها إلا عندما سمعت صوت حسين المنذر “أبو علي”، وهو يغني مع فرقة العاشقين لها في أحد أشرطة الكاسيت عندما كنت طفلًا صغيرًا، فأمسكت قلمًا وبقايا كيس ورق بني بعد أن أكلت آخر حبة موز كانت ترقد في قاعه، فردت الكيس وأمسكت قلم الرصاص وبدات أرسم بالكلمات أول رسالة لفلسطين، وربما كانت أول محاولة شعرية طفولية، محاولة شعرية لا بحر لها فأنا طفل لا يعرف الموانئ، حاولت أن أرسو على شواطئ القصيدة فاكتشفت أنني لا أصلح شاعرًا، فحاولت بكل طفولة أن أرسم صورة متخيلة عن فلسطين فلم أستطع إلا محاكاة لوحة غسان كنفاني التي تحتوي اسم فلسطين، وعزمت على التمرد ومحاولة الرسم فلم أفلح، فعلى ما يبدو أن مشاعري كطفل كانت سريالية كالواقع الذي نشأت فيه، وتحتاج لمهارات أكبر في الرسم والقصيدة، نشأت أسمع بفلسطين ولا أراها، وأسمع هذا زيتون نبالي، جبن وكنافة وصابون من نابلس، كعك من القدس، زبيب من الخليل، شطة من غزة، بركات الخضر والجميز من اللد، كانت تصلني كل هذه المنتجات من أهلي وأصدقائي هناك إلا جميز اللد لم يكن يصل، لأن جميز اللد خاف أن يغادر حاراتها ولا يعود إليها مجددًا كما حدث مع جدي “سعيد”، الذي تغير اسمه وصفته بعد الخروج من فلسطين.
وأنا كنت طفلًا لا يعرف اليأس، فقررت أن أتعلم اللغة العربية، وبدأت استكشف معاجمنا العربية، ولكنني لم أجد كلمات جدتي في هذه المعاجم، فلم أعرف هل جدتي “سعاد” أكثر بلاغة من هذه المعاجم أم أن لهجتها ومفرداتها قد سلبت من المعاجم كما سلبت فلسطين من الخرائط؟ فلطالما حدثتني جدتي عن بيارة جدها ومعصرة أبيها، كانتا بالنسبة لها كوكب من كواكب مجرة فلسطين الكبيرة والواسعة، وأنا كنت أستمع لها وأبني المعصرة معها وأخبط على عجينة السمسم بكل قوة وشقاوة، وكنت أزرع أحيانًا أشجار البرتقال والليمون، وأجمع ورق اللسان حتى تطبخه جدتي “نزيهه” لنا في يوم ممطر بعد العودة من مدرسة وكالة الغوث، فانا كطفل نشأت أحفظ جغرافيا فلسطين وتاريخها وكانت تزرع بداخلي بكل رفق، حتى كبرت ولم أستطع التمييز بين فلسطين وبين مشاعري، لقد تداخلت الأمور ببعضها بيني وبينها، وأصبحت عملية الفصل بيننا تتطلب تدخلًا جراحيًا قيصريًا احتمالات نجاحه ضئيلة جدًا، ولم ينصح به أحد من المختصين.
كان جدي قد مات منذ أن كنت طفلًا، وهو ينتظر “سرفيس عمان- اللد”، ولكن على ما يبدو أن جسد جدي كان يصر على العودة، فقد دفن في عمان في مقبرة أم الحيران، بالقرب من محطة للسفريات لعله يغافل حارس القبر وينجو، لأن العودة حق تمامًا كالبعث، وإن لم نرجع إليها بأجسادنا فأروحنا تأبى إلا أن تعود، وحتى جدي “مصطفى” عندما تعرض لجلطة دماغية قبيل وفاته، فقد تمكنت هذه الجلطة من جسده ولكنها لم تستطع اغتيال ذاكرته في فلسطين، فظل يتحدث معنا عن فلسطين وأذكر أنه كان ساخطًا مني ذات يوم لأني لم آخذه للصلاة في القدس بسيارتي، وقال لي: المسافة قريبة بين اللد والقدس ومعك سيارة، فلماذا لا تقلني إلى هناك؟! لقد أعادت الجلطة الدماغية جدي إلى اللد، وكان سعيدًا بعودته إلى هناك وحتى وهو غير قادر على الحركة، وقال لي ذات مرة أيضًا: “اليهود والانجليز عينهم على اللد، دير بالك يا سيدي”، كان جدي يظن أن كل ما عاشه بعد اللد كابوسًا، سيصحو منه في أية لحظة، وكنا جميعًا نتعاطى معه على أنه في اللد، حتى اللحظة الذي طلب فيها بعض حبات من الجميز، والتي لم نستطع تأمينها له، فقررت أن أصارحه بأنه مريض وقد خرج من اللد منذ سنوات وإن كل ما يعيشه هو الذكريات فقط، استمع لي جدي ثم نظر إلى جدتي وقال لها: إقرأي المعوذات على رأس هذا المجنون، لقد جن هذا الصبي قبل أن يصبح رئيسًا لبلدية اللد.
الموت والجلطة والحلم كانوا من أدوات أجدادي للعودة إلى فلسطين، أما آخر المحاولات وأشرسها للعودة فكان ذلك الايمان بالعودة الذي ورثه جدي لابنائه وأحفاده، وبأن سرفيس العودة نحو اللد سينطلق من عمان ودمشق وبيروت في أيه لحظة، وبأن اللاجئ لا يجب أن يغسل عند الموت، فقد مات شهيدًا وعاش مقهورًا، أما أنا اللاجئ الحي فسأعود وكل لاجئ سيعود، فهذا الاحتلال طارئ بلا جذور، فنسمة حب فلسطينية كافية لحمل دولة الشر اللقيطة من شواطئ عكا وحيفا إلى الأماكن التي أخرجت أجداداهم بمباركة الملح الأنجليزي لأنهم لا يهضمون.
زارتني روح جدي قبل عدة أيام في منامي وأخبرتني أن أجرة سرفيس العودة للد هي الإيمان بحق العودة ولتزف لي خبر انتصار أرواح أجدادنا قبل أيام في نابلس على الغاصب، ولتقول لي بأن عودة الأرواح إلى نابلس هي مقدمة انتصار الأحياء، فأرواحنا لا تهزم وإن غابت أجسادنا.