المهندس عصمت حداد
شجاعة الاستقالة!
بقلم: المهندس عصمت حداد
كانت استقالةُ وزيرِ النقلِ مالك حداد من منصبهِ خلالَ الساعاتِ الأولى من تشكيلِ حكومةِ الملقي، تمثل شجاعةً وصدقيةً وشعوراً عالياً بالمسؤوليةِ إزاءَ الذاتِ والوطن في الآن نفسه، فقد قرّرَ بكلِّ أريحيةٍ تقديم استقالتهِ وهو في ذُروةِ عطائهِ وقوتهِ، بل ونجاحهِ في إدارةِ كبرى شركاتِ النقلِ في الأردن، إضافةً إلى نجاحهِ في إدارةِ العديد من هيئات النقلِ المحلية والعربية. ولكنه لم يستطع تحقيقَ حلمهِ، وما يعتقد أن المواطن الأردني يصبو إليه في مجال النقلِ، فبعد أن أثار بعض المتربصين وأعداءُ النجاحِ قضيةً عائليةً مضى عليها أكثرُ من أربعة عقودٍ، ورغم أن الموقف الدستوري والقضائي لا يمنعهُ من الاستمرار ، إلا أنه آثر ألا يعيق عمل حكومة سيد البلاد، وألا يجعلَ الحكومةَ التي اختارته ليكونَ ضمن فريقها بموقفِ المدافعِ والمبرر أمام الناعقين على الوطن الذين يتلذذون في خلق الفتن والأزَمات؛ لذلك أعلن استقالتهُ على الملأِ؛ ليفسحَ المجال لزميلٍ آخر، عسى أن يكملَ المشوارَ بقوله: ‘هناك الكثيرُ من الشخصيات المشهودِ لها بالكفاءةِ ويمكنها أن تحل محلّه’. لم يخطر بباله ولو للحظةٍ واحدة أن يفكّرَ بأن لا بديل عنه كما يزعم بعض المسؤولين أو بعضُ أبناءهم وأتباعهم، بل تقدّم ليتخذَ القرارَ الشجاع ‘الاستقالة’ كحقٍ وواجبٍ في الوقت نفسه . كلُّ ذلك مرهونٌ بإيمانهِ بالمنجزاتِ والأهداف الوطنية.
ولعلّ تجربةً راقيةً مثلما هي تجربة السيد حداد، إنما هي دليلُ التحضرِ وتراكمٍ ثقافيٍ ومعرفي والتزامٌ بالتطورِ وفقاً لقوانين الحياة السياسية، وهي تجربةٌ تستحقُ لفتَ نظر جميع المسؤولين في وطننا الأعز. فالمنصب الحكومي، هو تكليفٌ وليس تشريف، مؤقتٌ وليس أزلياً ، وبالتالي تحمّلُ المسؤوليةِ بالتخلي عن الموقع الرسمي إنما هي إقرارٌ بإيمانٍ عميقٍ بحجمِ المسؤولية وعدم التمسكِ بالمواقعِ ، وتقديمُ مصلحة الوطنِ على المصلحة الشخصية ، خصوصاً إذا قدّرنا أن الهدفَ منه هو الخدمةُ العامة غير المقصورة على فردٍ أو جماعة ، وهذا ما فعله بالضبطِ الوزيرُ المستقيل الذي استحقَ احترام الجميع.
إن حدثاً من هذا النوع يجعلنا اليومَ نفكّر بما حولنا حين يتمسكُ آخرون بمواقعهم لعشراتِ السنين ، ويهيمنون على مصادر صنع القرار ، على الرغمِ من فشلهم ، وعلى الرغم من المآسي والآلام التي سبّبها بعضهم، سواء في أزمات دخلوها، أم نزاعات أجّجوها ، أم ممارسةٍ لسياساتِ عزلٍ وتهميشٍ وإقصاءٍ مارسوها، أو أموال هدروها ، تارة باسم الشعب وأخرى بحجة ‘المصلحة العامة’ وكأنهم أوصياء على هذا الشعب!!.
الاستقالةُ جزءٌ من شجاعة الانجاز ، وهي إحدى الفضائل الإنسانية الأسمى للإنسان، وهي إعلان عن التحدّي للنفسِ والآخر ، وكان أفلاطون يعتبرها جسراً يصل العقلَ بالرغبة، وهذه الأخيرة بالتحقق والامتلاء. أما أرسطو فقد اعتبر الشجاعةَ تأكيداً على الطبيعة الأساسيةِ للإنسان ، وكان الأمام علي هو من قال : ‘لعلّ رأياً واحداً شجاعاً أغلبية’.
الشجاعةُ تعني قدرةَ الروحِ (النفس البشرية) على المواجهة ، وهي تأكيدٌ للذاتِ في امتلاك زمامِ أمرها والتصرّفِ على نحوٍ يتسمُ بالشفافيةِ والصدقِ ، وهي تجاوزٌ للأنانيةِ التي تنطوي على نرجسيةٍ وحبٍّ متضخّمٍ للأنا ، وكان العالم النفساني والمفكر أريك فروم هو من قال : ‘ إن محبةَ الذاتِ المستوعبة جيداً ومحبة الآخرين المستوعبة جيداً أيضاً ، هما بهذا المعنى مترابطتان بشكل وثيق’ . الشجاعةُ نقيضُ الجبنِ، وشجاعةُ الاستقالة تعني الصدقَ في إعادةِ تقديرِ وتقييمِ حجم التحدّيات الوطنية ، والقدرة على إحرازِ النجاحِ المطلوبِ والمنشودِ في ظلِ ظروفٍ طبيعيةٍ وبيئةِ عملٍ صحية ، لا في ظلِ الأجواءِ المشحونةِ والمتشنجةِ ؛ ولذلك فإن الاستقالةَ فيها شجاعةٌ ومسؤوليةٌ وانتماءٌ وروحٌ رياضيةٌ عالــــيةٌ واحترامٌ للنفـــسِ والآخـــــر.
في ثقافتنا السائدة حتى الآن ننظرُ إلى الاستقالة نظرةً سلبيةً ، بل تبدو كلمةُ ‘استقالةً’ وكأنها سيئة السمعة في عالمنا العربي ، فالسائدُ هو تشبثُ المسؤولينَ بمواقعهم بأسنانهم قبل أيديهم وأظافرهم ، ولا فرق في ذلكَ في المسؤولية سواءً كانت حكوميةً أو غير حكومية ، ولا زالَ الفكرُ السائدُ إزاءَ فكرةِ الاستقالةِ يعتريهِ الكثيرُ من العيوب والمثالبِ والالتباسِ ، كما إن الكثير من المسؤولين في هذا الوطن لم يدركوا بعدُ حقيقةَ التطور الدولي على هذا الصـــعيد ، والكثير منهم يعتقدونَ أن الاستقالةَ تعني هزيمةً وانسحاباً وهروباً من المجابهة ، أما الدفاع عن المواقع ، فهو تحدٍ ومواجهةٌ واستعدادٌ للمنازلةِ ، لا يهمّ لديهم إن أخفقوا في السابق ، أو أحدثوا الكوارث والأزمات ؛ إذ لديهم الاستعدادُ للإخفاقِ لاحقاً ، دون اكتراثٍ بمصلحةِ المجتمع.
لعلّ الدرسَ الشجاع والشفاف الذي قدّمه وزير النقل السابق يمكن أن يكون حافزاً للتفكّر بالاستقالة ؛ لأنها وسيلةُ مجابهةٍ مع النفسِ والآخر ، ودليلُ شعورٍ بالصدقِ والانتماءِ والمســـؤولية تجاه مصلحة الوطن والمواطن .