د. علي منعم القضاة
ألا حيّها عجلون من بُرْدَةِ الهوى أسامرها بدرًا؛ فترسمني شمســا
شذرات عجلونية (50)
القراء الأعزاء؛ أسعد الله أوقاتكم بكل خير، أينما كُنتُم، وحيثما بِنتُم، نتذاكر سويًّا في شذراتي العجلونية، ففي كل شذرة منها فكرة في شأن ذي شأن، ننطلق من عجلون العنب والذَّهب، عجلون الحُبِّ والعتب؛ لنطوف العالم بشذراتنا، راجيًا أن تستمتعوا بها.
سياسة التوازن والوسطية
يعدُ الأردن الحديث ومنذ نشأته الأولى عام 1921 منطقة واصلة عازلة في الشرق الأوسط، وإن التوجه السياسي للنظام الأردني كان وما يزال دائم الاعتدال والتوازن والوسطية في الحوار مع الآخرين، وفي التعامل معهم، ولا شك بأن هناك العديد من الأسباب تجعل الأردن يستمر في سياساته هذه.
إذ يعد الأردن أسهل وأقرب السبل والأماكن للالتجاء إليه وأكثر بلدان الشرق الأوسط أمناً واستقراراً والحمد لله، ولذلك يلجأ إليه كل من يرغب أن يعيش بسلام وأمان، من جميع دول المنطقة، إذ ما زال الأردن عروبياً منذ أن أسست الدولة الأردنية الحديثة بدايات القرن العشرين (1921)، والأردن يسعى لأن يكون وسطياً جاذبا لكل قوى التحالف العربي.
وبسبب كل ما تقدم من سياسة التوازن، وعروبية المنشأ وسعة الصدر وطبيعة النخوة لدى الأردنيين على جميع المستويات، فقد كان البوابة الأولى وربما الوحيدة للجوء الهاربين بأعراضهم وأموالهم ودينهم من الجور الواقع عليهم في بلدانهم منذ قرن من الزمان.
وكانت للأردن في كل تلك الهجرات علاقة وثيقة مع أغلب الدول العربية، حيث كانت وحدة مع فلسطين عام 1950، وكانت وحدة مع سوريا عام 1976 استفدنا منها فائدة عظيمة نرجو أن يعود تطبيقها وهي خدمة العلم، حتى تصقل شخصية الشباب فقد كان لها أثر طيب وكبير على الشباب، وفي عام 1989 كان عندنا مجلس التعاون العربي بين كل من العراق والأردن واليمن الشمالي ومصر.
أقعد برا ولا تقعد جنب الجرة
أصبح حالنا في الأردن كحال من يجلس في الولائم والعزائم بجانب الجرة، أو زير الماء، كل الحاضرين يطلبون منه السقيا وهو ظمآن، فقد ضاعف موقع الأردن الاستراتيجي واتصاله المباشر مع حدود طويلة جداً مع سوريا والعراق وفلسطين، من القيمة السياسية له في منطقة الشرق الأوسط، وأثر حتماً على علاقاته مع جميع دول الجوار. وهو انعكاس طبيعي للأهمية الكبرى لإقليم الشرق الأوسط على المستوى العالمي؛ إضافة إلى موقع الأردن المركزي والمتوسط بين الدول العربية وفلسطين غرب النهر، ودوره المحوري في كل ما يجري من أحداث.
فقد وجد الأردن نفسه مرتبطاً كلياً مع قضايا هذه الشعوب، وخاصة قضايا اللجوء القسري إلى أراضيه منذ فجر تاريخه الحديث، وأصبح بحكم هذا الموقع الوسطي والمتوسط لدينا ما يعرف بالخليط المركب من الامتزاج العائلي والعشائري بين الأردنيين وجميع تلك الدول ضمن سلسلة من العلاقات الأخوية والقرابة غير القابلة للانقسام، أو التجزئة، وهذا يؤثر في الحياة العامة سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً، ويجعلناً ننظر للأمر بطريقة مختلفة عن نظرة أية دولة عربية أخرى.
الأردن واحة أمن وأمان
شهد الأردن موجات لجوء متلاحقة منذ نشأته الأولى، فقد لجأ إليه الفلسطينيون منذ ما قبل عام 1948، بشكل طبيعي بين ضفتي النهر لأن العشائر متلاحمة في المصاهرة والنسب، وكان هذا طبيعيا، ثم بعد عام 1948 عندما احتلت إسرائيل جزءاً كبيراً من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، قدموا على شكل لجوء. ثم كانت موجة أخرى من اللجوء بعد احتلال كامل الضفة الغربية عام 1967، وقد ساعدهم في ذلك الوحدة التي كانت قائمة بين الضفتين الشرقية والغربية عام 1950، وقد كانت فلسطين تعدُ جزءاً من المملكة المتحدة، وما تزال المخيمات منذ عام 1948 تنتشر في معظم مدن المملكة، ويعيش كثيرٌ من الأحيان سكانها ظروفاً أكثر من صعبة، وكلهم أمل أن يعودوا لبلادهم وما زال بعضهم يحملون مفاتيح منازلهم في مدنهم وقراهم الفلسطينية.
الجار حقه على الجار
ولجأ السوريون إلى الأردن وقت أحداث حماة عام 1982، وما زال قسم كبير منهم موجودين حتى يومنا هذا، لا بل إن بعضهم حصل على الجنسية الأردنية، وقسم كبير منهم (جيل كامل 40 سنة) ولدوا وعاشوا وتلقوا تعليمهم العام والجامعي، دون أن يزوروا سوريا مجرد زيارة بسبب بطش النظام هناك. واستمرت هجراتهم بعد الحرب الأخيرة على الشعب السوري التي اشترك فيها جيش النظام السوري مع الجيش الإيراني، وقوات حزب الله اللبناني، إضافة إلى الروس، الذين دعموا النظام القمعي في بداية الأحداث بالسلاح وبالدعم الدبلوماسي، ثم أنقذوه من السقوط عام 2016 بتدخلهم المباشر والدموي، وهذه القوى مستمرة حتى تاريخ كتاب هذا المقال، وهم يكيلون للشعب السوري شتى صنوف العذاب.
ولا شك أن من مصلحة الأردن تحقق في استقرار سورية، وإن للأردن الحق في التواصل مع مختلف القوى الفاعلة في القضية السورية، وقد لاحظت الحكومة الأردنية ذلك فلم تعمل منذ البداية بسياسة قطع العلاقات مع النظام السوري، لكن ليس من المتوقع أن تكون العلاقة الأحادية مع النظام وحده دون ملاحظة ظروف الشعب المقهور والظلم الكبير الذي تعرض له، ليس من المتوقع أن تكون هذه العلاقة مساعدة في تحقيق الاستقرار، خاصة أن النظام يساند عمليات تهدد الأمن في بلاده والبلاد المجاورة، مثل تجارة ونقل المخدرات، فمن المنطقي أن يتواصل الأردن مع النظام لتنسيق عمليات مكافحة تهريب المخدرات، لكن ليس من المتوقع بأن يؤدي النظام السوري دوراً حقيقياً في هذا التنسيق دون ضغط خارجي.
ومما تجدر الإشارة إلى أن الشعب السوري شعب مُنتج؛ حيث تجدهم موجودين في شتى المهن، ويكاد قطاع المطاعم والحلويات يصبح حصراً عليهم فهم أرباب مهنة، ولا يوجد سوري واحد حتى المتعلمين منهم تعليماً جامعياً ليس صاحب مهنة، وإن من يقوم بجولة في أحياء المدن الأردنية سيرى ذلك جلياً، في المحال التجارية وفي المدن الصناعية، وفي أي مهنة تخطر على بالناً. فهم لا يعرفون ثقافة العيب، لا بل إن العيب عندهم أن لا يكون لديك مهنة، ولذلك فإن أطفالهم ومنذ السادس الابتدائي يلتحق كل منهم بمهنة يمارسها كل عطلة صيفية ولا يكاد يصل الثانوية العامة إلا وهو متقن تماماً لهذه المهنة، لذلك هم ليسوا عالة علينا … بقدر ما اضطرتهم ظروفهم القسرية للجوء إلى الأردن، ولو كانت بلادهم آمنة على حياتهم لما تأخروا في العودة كثيراً.
فموقف الأردن الإنساني من اللجوء السوري يشبه تماماً موقفه من اللجوء الفلسطيني واللجوء العراقي، واليمني وغيره من الدول، وإن إكراههم على العودة يعني تعريضهم للقتل والاضطهاد. ولكن وإلى حين إيجاد حل مناسب يمكن أن استغلال مهنيتهم وعطائهم وإنتاجهم في استصلاح كل مناحي الحياة في الأردن ضمن سياسات وخطط مدروسة من أصحاب الشأن، إلى أن تتيسر لهم ظروف العودة الآمنة، ومعظمهم لا يعمل بالوظائف التي تنافس الأردنيين، إنما في مجالات وحرف يدوية يعزف عنها الأردنيون كما هو الحال في مهن العمالة المصرية.
وفاءً للرافدين
العراقيون في كل الحروب التي جرت في بلادهم، كان مخرجهم ومنفاهم الأول هو الأردن، منذ الحرب مع إيران، وبعدها حرب الخليج الأولى عام 1991، وقد استمرت الهجرات واللجوء وبصورة أخص بعد الاحتلال الإيراني والأمريكي للعراق عام 2003، والذي ما زال جاثماً على أنفاس الشعب العراقي حتى اليوم.
ولكن الفارق واضح بين الجنسيتين إذ إن العراقيين أصحاب رؤوس أموال فقد تحولت تجارة السيارات والعقارات في الأردن بشكل رئيس بأيديهم، وكثير منا يشتري شقته التي يسكن فيها، أو سيارته بالتقسيط من مستثمر عراقي، تشهد المناطق الحرة على ذلك، كما تشهد معارض السيارات التي تغص بها شوارع المدن الأردنية، وهي تُعرف من أسمائها، إضافة إلى نسبة كبيرة من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأردنية وفي كل التخصصات، حتى تلك التي يتوفر منها أردنيون.
موجات من كل الاتجاهات
لجأ اللبنانيون إلى الأردن بسبب الحرب الأهلية عام 1975، وانتشروا في معظم المدن وخاصة مدن الشمال الأقرب إلى الحدود، ولكن وجودهم الآن غير ملحوظ كما هو حال أبناء الدول العربية الأخرى.
وكذلك لجأ الشعب الليبي، والشعب اليمني بعد أحداث ما يسمى بـ” الربيع العربي” في بلادهم، وهم من جميع تلك الفئات موجودون على الساحة الأردنية، وأصبحنا نرى في الشوارع دعايات شاي الكبوس أشهر ماركة شاي في اليمن، وهم موجودون في مدارسنا ومساجدنا وأحيائنا السكنية، بل وفي مستشفياتنا وقسم منهم أطباء نتلقى على أيديهم العلاج. وإذا استمرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا ربما يصلنا مهاجرون أوكرانيون، وكذلك الحرب في السودان وإن كانت نسبته غير مرئية للعيان مقارنة مع الجنسيات الأخرى.
هذا يقودنا وإن كان بشكل مختلف للحديث عن الجالية المصرية التي لا يقل تعدادها في الأردن عن مليون إلى مليون ونصف من الأيدي العاملة معظمها غير حرفية، يعملون في الخدمات والزراعة والحراسة، ولا تكاد تخلو بناية واحدة في كل المدن الأردنية من حارس عمارة مصري. نعم ليسوا لاجئين ولكنهم يشكلون نسبة من عدد السكان وهناك مهن يستطيع أن يعمل بها أردنيون، معظم حراس البنايات تتراوح رواتبهم بين 250-300 دينار إضافة إلى سكن مجاني، وفاتورتي الكهرباء والماء.
إعادة اللاجئين قسراً مساهمة في قتلهم
إن الظروف والممارسات غير الإنسانية المستمرة التي تمارسها إيران على الشعوب العربية المسلمة في العراق، وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، وكذلك المعاملة اللاإنسانية التي تعامل بها إسرائيل الشعب الفلسطيني ليل نهار، تضطر كل من تسمح له ظروفه من أهل تلك البلدان إلى الخروج باتجاه الأردن، فهو يعتبر المنفذ الوحيد الآمن، والمعبر الأسهل لأبناء تلك البلدان سواء على شكل رحلة علاجية، أم تعليمية، أم تهريب عبر الحدود، فالعائلات مشتركة، والمصاهرة لا يمكن فصلها بين أبناء الشعب الأردني وتلك الشعوب جميعها، وإنني أرى أي خطوة تتعلق باللاجئين من أي جنسية يجب أن تنطبق على جميع أنواع اللجوء، وعلى القادمين من كل الجنسيات منذ بداية أول موجة لجوء.
اضرار متشابكة تلحق بالأردن
خلاصة القول إن الحديث عن قضية اللجوء ينبغي أن يشمل كل من دخل الأردن لهذا السبب ولا نقتصره على جنسية دون أخرى، أو عرق دون آخر، وهذا يحتاج مواقف حكومية واضحة المعالم، والتي أظنها غير موجودة على أرض الواقع. وإذا طالبنا بعودة اللاجئين إلى بلدانهم فمن الضروري أن يكون الطلب شاملاً من جميع من دخل الأردن بصفة لجوء هارباً من الظلم الذي لحق به في وطنه.
ومما يزيد الطين بلة أن الهجرة وحدها ليست الضرر الوحيد وإن كانت الضرر الأكبر، بعض مخيمات اللجوء الآن أكبر من حجم المحافظة التي تجاورها من حيث عدد السكان شئنا أم أبينا، كما إن الأرقام الرسمية ليست دقيقة فهناك أعداد إضافية تدخل دون تسجيل رسمي ولا توثيق. الضرر الذي لحقنا من الحروب واللجوء من بعض الدول العربية والعالمية الأعداد الكبيرة من الطلبة الأردنيين الذين كانوا يتلقون تعليمهم الجامعي وهم عشرات الألوف عادوا في منتصف الطريق ومنهم من كان على أعتاب التخرج من العراق وسوريا والسودان وأوكرانيا واليمن، وقد أضافوا عبئا جديداً على الأردن الذي ينوء كاهله بالأعباء الاقتصادية والاجتماعية والبطالة وغيرها من المشكلات المحلية.