سعيد الصالحي
لم أعرف أن للصخور أقدارًا تولد معها كالإنسان تمامًا، كنت أظن أنها مجرد جمادات تتلاعب بها الرياح والأمطار، أو أنها ليست أكثر من مخلفات لرواسي الأرض، كسرتها الزلازل أو شوهتها حمم البراكين، وتحملّت كل هذه الأوجاع دون أن تتأوه أو تصرخ، فعلى ما يبدو أن أول غزوة للريح قد نهبت ألسنتها، قبل أن يجهز عليها الزلزال ويشل أطرافها، فالصخور حظوظ أيضًا في هذه الدنيا، وما أسوء حظ هذه الصخرة التي ضاقت بها الدنيا، حتى تجثم فوق صدورنا، كان شهيقنا وزفيرنا يحوّلانها إلى راقصة عرجاء فوق مسطح مائل، فأنفاسنا لا تريح أحدًا حتى الصخور، وهي تتدافع خارجة من قفصنا الصدري، نحو قفص آخر بلا حدود ولا قضبان، ولا أعرف إن كانت هذه الصخرة تخنقنا كل يوم بقصد !! أم أن القدر حطها فوق صدورنا بلا حول منها ولا قوة؟ لتكمل دورها في مشهد حياتنا ككومبارس صامت، وحتى لو لعبت دور قاتلة متسلسلة في مسلسل أيامنا الرتيب !!!
نعم للصخور حظوظ، فمنها قد نحت أسلافنا آلهات عدة، سلّموها بكل طواعية مصائرهم في الدنيا، فكان أسلافنا يودعون أرواحهم تحت أقدامها، ومنها ما قد انتهى بها المطاف حاملة لحافلة قد بترت إحدى عجلاتها، فلكل صخرة رحلة في هذه الدنيا، فكل الصخور ستتفتت وتموت، فالحياة بدأت عندما ثارت الصخور، واندفعت هاربة من ثقبها الأسود، وخلال رحلتها تزاحمت وتضاربت تجاذبت وتنافرت ثم تباعدت وتقاربت، وعندما طالت الطريق وبعد الهدف، تماسكت وتوحدت فتمخضت وكان ميلاد هذا الكوكب، فلا عجب أن يستأمن أسلافنا الصخور على أرواحهم، هذه الصخور التي قدمت أرواحها قبلنا لتولد الدنيا، فالصخور الطيبة أكثر من يعرف قيمة هذه الأمانة.
لا ليست مصادفة أن تحتل بعض الصخور اللعينة مواقعها فوق صدورنا، فنحن لم يضرب أجسادنا نيزكًا من خارج المجرة منذ زمن، فنحن ما زلنا نتنفس رغم هذه الصخور الزيتية التي تسربت إلينا بعد أن استحمت بزيت الأرض الأسود، وخرجت لتكمل “برونزاجها” فوق صدورنا وتحت أشعة شمسنا التي لا تظهر كثيرًا هذه الأيام، فهذا الحجر قد اغتصب موقعه فوق أجسادنا إغتصابًا، ولم تحمله يد كريمة لتسكنه في هذا الموضع، والغريب في هذا النوع من الصخور اللعينة أنها تنمو كالأشجار، لا لأنها قد سرقت أرواح أسلافنا بل لأنها ما زالت تتمتع بخاصية الجذب للأحجار الأخرى، حتى بت أتمنى أن يزورني نيزك ما ليخلصني من غابة الأحجار، وهذه الأحجار مسؤولة أيضًا عن زيادة كتلتنا فهي تتسرب إلى أحشائنا وتثقل من حركتنا، ولكن لساننا ينجو من شرها ليلهج كل لحظة “أحدَ أحد”.
إن كانت هذه الصخور رواسيًا لأجسادنا الهشة، فما بالنا وبرغم الأحمال من أصغر نسمة نميد، وإن كانت تمارينًا لتحسين عضلات الصدر والمعدة، فمعظمنا لن يكون بمقدوره أن يكون كالبطل العالمي “مصطفى حسنين” في كمال الأجسام، فأنا أحب أن أحمل تلك الأثقال التي اختارها، وإن كانت أساسًا لنبني فوقها صروحًا، فلم أقرأ في كتب التاريخ أن الصروح تبنى فوق الأجساد، فأجسادنا ليست جذورًا لهذه الصروح، ودمائنا لن تروي أزهار شقائق النعمان، ولن تتساقط حبات عرقنا ندى على زجاج هذه الصروح، فنحن خلقنا حتى نعيش كبشر وليس كجدران نراوح مكاننا وغيرنا يمارس هوايته بالقفز فوق الحواجز.
فمن الصخور نقشنا مدنًا، وبنينا بيوتًا، ومنها رصفنا الأرض، ومن إحدى صخورها عرفنا طريقنا نحو السماء، فاللصخور حظوظ ولكل منا حظه منها أيضًا، فنحن مذ ولدنا ولد معنا قريننا من الصخور، صخرة تشبهنا وتعيش نسخة صخرية من حياتنا هناك، وتارة تتقاطع الحيوات فتلتقي أرواحنا ونتبادل الأدوار، فنصبح نحن الصخور التي تجثم فوق أجساد غيرنا، لأننا أكثر من يعرف كيف يوجع الأجساد ويتعب الأرواح، فنحن نعذب أنفسنا بأنفسنا بداء الإنتظار، لأننا ما زلنا ننتظر نسخة أبا بكر الصخرية أن تأتي وتدفع الفدية.
سنصمد في هذه الحياة كالصخرة، وسنصبر حتى تأتي أجيال من الصخور لتبني لنا سلمًا نحو جنتنا التي نحب وحتى لو أكلنا فيها صخرًا وزعترًا.