حمدة الزعبي
لا تزال تذكر، وهي طفلة، ابنة الخمس سنوات، كلام والدتها، عن أبيها، كانت تحكي لها ولأختها التي تكبرها بثلاث سنوات عن والدهما كل يوم ..كانوا أربعتهم: الأم والجدة والابنتين يقيمون في بيتٍ واحدٍ، يضم غرفة طينية واحدة، مضاف لها مطبخ، وحوش الدار، وبداخله طابون الخبز وبجانبه خم للدجاج وعلى واجهة المطبخ ثُبتَ رفًا، احتضن أربعة علبٍ لأعشاش الحمام.
كانتا تُصغيان كل مساءٍ لأمهما باهتمامٍ، ثم ما تلبثان أن تسألا: كيف توفي والدنا؟! حدّثينا يا أمي. نريد أن نرى صوره، ولو صورة واحدة.
تشرعُ الامُ بحديثها وهي ساهمة وشاردة بعقلها وعيناها مثبتتين بعطف وحنان على طفلتيها، كأنها تقلب دفاتر الزمن وتعود بذاكرتها إلى سنواتٍ خلت وماضٍ عصيب، مضمخ بجراح السنين، تقول لهما: والدكما كان يحبكما كثيرًا، ولصعوبة الظروف التي عشناها في بداية زواجنا، ولأننا طُردنا من البيت، بسبب أن والدكما أراد أن ينفصل ويستقل بغرفتنا نتيجةً لتمييز والده في معاملته لأبنائه. فهو مع أخويه وأمه يعاملون بقسوة، فيما اخوانه الثلاثة واخواته الثلاث من زوجة أبيه مدللون ومحببون للأب ، فأبى والدكما أن يرضخ للظلم والقهر.
وتواصل الأم حديثها.. ترك والدكما بيت والده مرغمًا، فأقمنا عند أهلي لأيام.
وتواصل الام حديثها.. وأنتما كنتما حينذاك زُغبًا.. ليلى في الشهر الأول من عمرها وأنت يا نورا في بداية السنة الثالثة من عمرك.
وتتابع: بالرغم من أن حياة دار جدكم كانت ميسورة، وفيها الأغنام والحلال والجمِال، إلا أن والدكما آثر هجر بيت والده بعد الشجار والنزاع الذي دبَّ بينهما.
تشردُ الأم ثانيةً، وتعود لاستحضار تلك الأيام ومسحة الحزن تعلو ملامحها، تمعن النظر وتحدق ثانية ساهمة، ثمَّ تتمتم بصوتٍ خافتٍ.. لقد تألم أبوكما كثيرًا عندما كنت في فترة الوحام أثناء حملي البكر، بأخيكم حسين، اشتهيت وقتها أن آكل رأس بصلٍ، تمنيته، وطلبته بلساني لكنه لم يتحقق لي، بحجة أن الكمية محدودة وهي مخصصة للطبخ فقط، فشكوت لسلِفتي، زوجة عمكم محمد، وكانت يدها طايلة، وبتمون، كونها الكنة المحبوبة والمدللة، فتعاطفت معي وحصلت بطريقتها الخاصة على رأس البصل وخبأته بعبها وأحضرته لي في صباح اليوم التالي باكرًا، قبل أن يفيق أهل الدار.. فأكلته مع رغيف خبز، ولذته لا تزال تحت أسناني.
وتابعت.. بعدما انتقلنا إلى السكن الجديد وهو غرفة واحدة في نفس الحي، لا تبعد كثيرًا عن سكن أهله، أنجبت في البيت الجديد أخاكما حسين، كان طفلًا مكتنزًا جميلًا وبعينين سوداوين واسعتين وبأهدابٍ طويلة، ما أجملهما! عندما كنت أضع الكحل بهما يبدوان كفتحة الفنجان! لا لم أرَ أجمل منهما طيلة حياتي.. وشعره كان أسودًا فحميًا لامعًا، وبشرة بيضاء نقية! … وتردد الأم وهي مبحرة بعينيها إلى البعيد: ما شاء الله عليه من طفل! وتستدرك وهي تحاكي نفسها ..”ما كان ابن عيشة !”.
وتسترسل بقص تفاصيل حكاية طفلها المحزنة، فتقول: ذات يوم، وهو في الشهر السادس من عمره، وضعته في طشت وبدأت بتحميمه، وإذ بغجرية تدخل عليّ، وتنظر لطفلي بإعجاب، تطيل النظر إليه وتسألني عن عمره، بعدما خرجت من عندي، تغير حال الولد، وساء وخفت رضاعته.
تُحدّثُ ابنتيها بألمٍ والأسى يعتصرها ويبدو ظاهرًا بعينيها، ثم تردد لنفسها وكأنها تؤكد ما تفكر به.. “لقد أصابته الغجرية بالعين”. و تضيف..”عين الحسود فيها عود وعين اللي ما يصلي على النبي تنطفي”.
وتتابع بقص تفاصيل حكاية أخيهما حسين.. تقول: في اليوم التالي، مرضَ أخيكما حسين، وكان ساخنًا مثل النار، لم يكن عندنا في الرمثا، تلك الأيام، الخمسينات، لا طبيب ولا عيادة ولا مركز طبي، بعد يومين من مرضه حملناه وذهبنا به من قريتنا إلى إربد لمعالجته، لكنه للأسف فارق الحياة ونحن في الباص، عند منتصف الطريق.
وتقول وعينيها تترقرق بالدموع، بكيناه كثيرًا.. بكينا طفلنا الأول حسين ، بِكرنا وأول فرحتنا في الحياة.