رمزي الغزوي
قلما تخلو بيوتنا من مخزن يكون مستقراً ومقاماً لكل ما هب ودب، حتى ولو دخل البيت على سبيل الاستعمال لمرة واحدة، أو أصابه عجز دائم أقعده عن مهمته فشاكوش مكسور الرأس لا يرمى، بعد أن أصبح عاجزاً عن الدق، بل يحال إلى الاستيداع، بحجة أن سيأتي عليه حين ويستفاد منه، أي (حوينه عليه).
وهكذا مع باقي الكراكيش والكراريب، فقد تجد مسماراً مطعوجاً، وقلم حبر لفظ آخر خطوطه منذ سنوات، وعلبة دهان مبقورة البطن، كان يفترض أن تتحول إلى أصاص زريعة، لكن الصدأ حرمها من هذه المهمة، فظلت في الحفظ والصون، فربما يأتي عليها حين ويستفاد منهاحوينه عليها.
وخزائن الثياب يلازمها التلبك المعوي في غالبية بيوتنا فعقليتنا التجميعية تأبى أن تفرط بشيء، حتى لو بهت وبار لونه، فلا نستغني عنه ونرميه، فلدينا شبه قناعة متجذرة، فحواها أن لكل شيء حيناً سيأتي عليه، ويستفاد منه، لكننا سنكتشف متأخرين، أن ما كنزناه وحفظناه وجمعناه، ما هو إلا مزيد من الفوضى، ولا شيء إلا الفوضى.
كانت الثياب تنتقل بالتتابع العمري طويل الأمد، من والد إلى ولدفثياب الأب الفضفاضة، التي أصابها الإعياء كان لا يُفرط بها بتاتاً، وإنما تُجرى لها عمليات «تقييف» وقص وتضييق وتخصير، لتلائم أكبر الأبناء ثم لتأخذ مسارها الطبيعي فيما بعد إلى الولد الذي يليه حتى إذا ما أصبحت رقعها أكبر منها، فإنها لا تحال إلى التقاعد المتأخر، بل ستدخل طوراً جديداً في الخدمة، لتصبح ممسحة مطبخ بامتياز.
العقل العربي يفعل هذا تماما.
فقد تداخلت عليه الأفكار والنظريات والتشعبات، وخالجته الآراء والشعارات الرنانة والبيانات المرقمة، وكل مهمته أنه ظل يضطلع بالجمع والتجميع والحفظ فقط، دون الاستعمال على تراب الواقع.
عقلنا (قيّيف) وخصّر وصغّر الشيء كثيرا من الأفكار، لكنه ما زال يؤمن أنه لم يحن الوقت ليقوم بمهمة التخلي عن أشياء باتت من ذكريات القرون المظلمة، ومن قمامة الحضارات البائدة: هذا العقل يكبر ويتضخم، كما تتضخم خزائن ثيابنا، دون القدرة على ارتداء شيء ما.
فهل سيأتي حينٌ من الدهر نحيا فيها بفكرة على مقاسنا، تناسب واقعنا وتطلعاته وأحلامه.