حمدة الزعبي
تغربت لست سنواتٍ طلبًا للعلم، عاشت حياةً جميلةً مفعمة بالآمال والطموحات مع صديقاتها وزميلاتها في الدراسة الجامعية في العاصمة موسكو، تعرفت إلى العديد من العادات والتقاليد للشعوب الأخرى، فها هنَّ زميلاتها يشاركنها بالسكن في غرفتها: النيجرية، والثانية المغربية، والثالثة الطالبة “كاتي” القادمة من أمريكا الجنوبية، دولة كوستاريكا، كان الجميع في سكن الطلبة يعيشون كالإخوة بودٍ ومحبةٍ واحترامٍ، كأنهم يعرفون بعضهم البعض من سنوات.
كل ليلةٍ، كنّ يجلسن في قاعة مكتبة السكن المخصصة للدراسة والمطالعة، يكتبن الوظيفة المطلوبة منهن في اللغة الروسية، والمواد الأخرى من تاريخ وأدب مبسّط يُدرّس في الصفوف العليا لمدارس ذلك البلد، بعد ذلك، كنَّ زميلات السكن العربيات في نفس الطابق يتسامرن ويتذكرن أيام الدراسة ويحلمن بزيارة الوطن وكل واحدة تحكي عن مدى شوقها لإسرتها، أمها وأبوها وأخوتها، وأقاربها وصديقاتها ..وبلدها.
كانت أكثر جلساتها مع زميلاتها: أردنية من عمان والثانية من فلسطين والثالثة والتي تقيم في الغرفة المقابلة لغرفتها من العراق، يجلسن و يتسامرن ليلًا، مستذكرات أيامًا جميلة خلت، وصارت حلمًا بالنسبة لهن بعد فراق الأهل والأحبة، يزاد حنينهن يومًا عن يوم، وتعصف بهن رياح الشوق للأهل .. لكن همومًا واحدة كانت تجمعهن، وتوحد مسار حديثهن وشغفهن بأوطانهن..
كما كنَّ يعقدن مقارنة بين اللغتين العريبة والروسية ليجدن أن لغتنا واللغة الروسية تشتركان بالثراء في البناء اللغوي والنحوي.. ضمائر الحاضر والمخاطب والغائب، ووجود التصريفات للأفعال مثل: أنا أتكلم أنت تتكلم هو يتكلم هي تتكلم هم يتكلمون نحن نتكلم، لا كما اللغة الإنجليزية في البساطة التي لا يتعدد فيها تصريف الأفعال كثيرًا.
غالبًا ما تناقشن حول هذا الموضوع واسودّت الدنيا بأعينهن عندما بدأن بدراسة بعض الكلمات الطويلة والتي أحيانا تتألف من ثمانية وريما عشرة حروفٍ ونيّف، لا مقارنة بين اللغتين الروسية والانجليزية..، كن يرددن كيف لنا أن ننجح بهذه اللغة الصعبة! .. لكنهن اجتهدن وضاعفن جهودهن حتى اجتزن سنة اللغة واتفقن على السير على ذات المنوال مستقبلا للعودة إلى الوطن رافعات الرأس، سالمات وغانمات.
تذكرت تلك الصباحات، عندما كنّ يتراكضن هبوطًا إلى الدور الأول، عند مناوبة الحراسة، كل واحدة تقودها اللهفة للظفر برسالةٍ من أهلها، لتطفئ نار الشوق في صدرها.
فالطلاب في الدول الأجنبية كالسجناء وخاصة في السنة التحضيرية- سنة اللغة-، إذ أنهم لا يعرفون لغة البلد الجديد، وتبقى في البداية لغتهم ركيكة تقتصر على مخزونٍ شحيح من الكلمات البسيطة، فمنهم من يجتهد ويبذل كل طاقته ومجهودة للتغلب على صعوبة الحياة، والتأقلم معها، ومنهم من يتعقد ويجد نفسه غريبًا غير قادر على الاندماج في المجتمع الجديد والحضارة الجديدة- لكنهم قلة-، فيقع فريسة المرض والإحباط وربما الاكتئاب، ليسجل فشلًا، ويسعى بكل جهده للعودة أدراجه ضاربًا بحلمه بعرض الحائط.
أما هي، فقد درست كثيرًا، وكانت تهمس لنفسها دائمًا لتعزز وصية أهلها لها:” أنا أول بنت خرجت من مجتمعي الريفي، من مدينتي، يجب أن أكون نموذجا ناجحًا لغيري، حتى الآخرين يبعثون بناتهم إلى الدراسة خارج الوطن”.. كانت دائما رقيبًا جيدًا على تصرفاتها وعواطفها وأحاسيسها.
1 تعليق
حمدة الزعبي
شكرا لكم