سعيد الصالحي
غزة بموقعها الجغرافي كانت وما زالت تربط بين قارات العالم القديم، وغزة بواقعها الحالي قد فرقت العالم بين إنسان وغير إنسان وأعادت الجدل حول تعريف مفاهيم كثيرة كان على رأسها الانسانية وحق الدفاع عن النفس، لقد أزال صمود الفلسطيني براقع الحياء عن وجه أنظمة وأشخاص ومؤسسات أشبعوا عقولنا على مدار عقود بشعارات كانت كافية لحمل الجنود والطائرات فيما مضى لمهاجمة كل مشروع لا ينسجم مع أهدافهم وكل فكرة لا تتوافق مع عقيدتهم التي لطالما كتبها الدم وغلفها الكذب.
فالفلسطيني الذي يولد في أي مكان في العالم يحصل على لقب مقاوم بدون رتبة، لأن الرتب تمنح بمقدار المقاومة وأسمى رتبة هم الشهداء، ففلسطين فيما مضى كانت تصدر البرتقال والليمون وها هي اليوم أكبر مصدر للشهداء في العالم وأكبر مصنع للكرامة والبطولة في العهد الحديث، ففلسطين لن تخدع مرة أخرى وتصدر اللاجئين وتبعث المهجرين نحو الشتات، فالفلسطيني لا يملك إلا التشبث في حقه أو الموت دونه، فقد مللنا خروجا وترحالا وكتبنا الفصل الأخير في الهجرات منذ عقود بعيدة.
ها هي فلسطين اليوم تقول لكل مشكك وشبه مثقف قد نالت منه الدعايات الصهيونية بأن الفلسطيني باق في هذه الأرض كجذر شجرة زيتون، وكشرش زهرة القرنفل البيضاء، والتي مهما تقطعت الأغصان في جسدها واحترق الساق وحتى لو قطع الرأس فهي لن تموت، فالجذر الفلسطيني في غزة والضفة والمدن الفلسطينية المحتلة يعرف طريقه عبر الانفاق تحت الارض ويعرف طريق المجد نحو الشمس عندما يكون فوق سطحها، نحن الجذور وهم العوالق، ونحن من نعطي الخير لهذه الأرض وهم قطاع طرق وقراصنة ستنتهي وظيفتهم ويختفي دورهم مهما سرقوا وقتلوا ونكلوا.
هؤلاء القراصنة الذين يحرقون دور العبادة وحضانات الأطفال والمستشفيات، ليسرقوا حفاضات أطفالنا وحليبهم لجنودهم لعلهم يتعلموا الرجولة ويرضعوا من ثدي الفلسطينية التي لا تنجب سوى الأبطال والذين يموتون مضرجين بتراب فلسطين وقشر برتقالها.
هؤلاء القراصنة الذي يقصفون كل شيء حتى المقابر لم تنجوا من وحشيتهم، إنهم يخافون الأموات قبل الاحياء ويرعبهم اللاجىء البعيد الذي لم ينسى أكثر من الفلسطيني القريب الذي يعذبونه آلاف المرات على حواجزهم كل يوم، إنهم يقصفون الفلسطيني من البر والبحر والجو لأنهم يدافعون عن أنفسهم كما يزعمون، والفلسطيني يتلقى كل هذا القصف بصدره وصدر زوجه وأطفاله لأنه يدافع عن نفسه بدمه وروحه لا بمليارات أمريكا وذخائرها.
أما الامم المتحدة ووكالة غوثها فلا تنسوا أيضا أن تتطوروا وتحدثوا شكل كرت المؤن، وأن تضيفوا عليه بطاقاتكم الذكية وأعمدة الباركود ورموز الاستجابة الالكترونية، فمنذ العام 1948 والعالم بأسره يترك القضية الجوهرية ويشغل سكان الأرض بالمساعدات والطحين والشراشف والبطانيات، إن دخلت المساعدات أو لم تدخل ستبقى فلسطين أكثر من قطعة أرض وعلم ونشيد وطني، ففلسطين حق لن يضيع حتى آخر مقاوم أو آخر لاجىء لم يعد كرت المؤن جزء من وثائقه الشخصية.
إن كانت القدس هي عاصمة فلسطين التاريخية فغزة وبكل فخر هي عاصمة الانسانية العالمية والتي أصبحت السراج الذي يعيد الأمل والنور لقضية الشعب الفلسطيني العادلة، وأصبحت أول خطوة على الطريق نحو عودة اللاجئ إلى وطنه وليست آخر خطوات التهجير نحو الشتات كما يظن الغافلون.