د.منصور محمد الهزايمة
غني عن القول إن الوطن لا يُبنى أو ينهض بأسلوب المغامرة أو الطيش أو العنجهية، أو الذهاب به بعيدا حد عض الأصابع أو كسر العظم بين فئاته، لإن هذا-حتما- يودي إلى ما لا يحمد عقباه، خاصة إذا كان الوطن يعاني أزمات داخلية وبذات الوقت تلفه أطر إقليمية ودولية تزيد من وقع أزماته، وترفع مستوى التوتر في أرجاءه، في مثل هذه الظروف تصبح الحكمة ضالة الوطن ومطلب المواطن، مثلما أن تعظيم الثقة بين الوطن وأبنائه هي الغاية والوسيلة، ولا يتأتى ذلك إلاّ من خلال رجال يرتقون لقامة وطن، ويعيدون إنتاج اللحظة التاريخية من جديد.
يُعد فقدان الثقة بين المواطن وأهل الحكم أساس الكثير من الأزمات التي يعيشها أي وطن، وفي ذلك مقدمة الفشل والتأزم الدائم، فأهل الحكم يقبعون في قصورٍ مشيدة بينما المواطن يعيش في وادٍ أخر، إذ أن هؤلاء معنيين فقط بما يحقق لهم وأسرهم وأعوانهم أهدافهم الخاصة، وممارسة الفساد بعنجهية، ودون تقية، ودالّة ذلك أن أبناءهم لا يتعلمون في جامعاتنا، ولا يتعالجون في مستشفياتنا، تعبيرا عن عدم الثقة فيها، وتأسيسا على الفوارق الطبقية التي شيّدوها، يقابل ذلك أن المواطنين لا يثقون بكل ما يصدر عن أهل الحكم من قولٍ أو فعلٍ أو تصريح، ليمتد ذلك إلى ما هو أخطر، وذلك بنزع الثقة ليس عن الشخوص فحسب، بل عن المؤسسات التي بناها المواطن بعرق جبينه، لتلصق بها شتى الموبقات، هذا كله، وغيره، يقود إلى طعن الثقة في مقتل.
من القصص التي تروى عن أهل الحكم أن أحدهم ذهب للعلاج في إحدى مستشفيات الغرب، وكعادتهم عمل مرافقوه جلبةً وضوضاء في المكان، فسأل مواطن في تلك الدولة عن السبب فقيل له: هنا يرقد للعلاج شخصية مهمة ورجلٌ عظيم من الشرق الأوسط فرد قائلا: لو كان عظيماً لتعالج في بلده.
تُنشر اليوم الكثير من البيانات التي تهدف إلى اسقاط صدقية أهل الحكم، والإطاحة بها، وأصبحت تُسرّب الكثير من الوثائق التي لا سبيل -غالبا- للتثبت منها، بل عندما يتم التحقق من التضليل، لا تأخذ الناس بالتصحيح، بل يتمسكون بالرواية المغلوطة، مما يشير إلى ما أذهب إليه من أن الناس فقدت الثقة – مطلقا – بربع السلطة، خاصةً وأنهم حققّوا مكاسب عظيمة لذواتهم، ولكنهم لم ينجزوا للوطن ما يستحق الذكر.
يثير اهتمامي أن الإنسان العربي غالبا ما يحنّ إلى الماضي، خاصةً عندما يحنق على واقعه، وتجده يترحم على الأيام الفائتة، ورجالات الحكم السابقة، وهذا يعني أن العربي لا يرنو إلى مستقبله، بل أقصى ما يرجوه أن يُعيد العجلة إلى الخلف!، حيث أن بعض العرب صار يظهر علانيةً الحنين حتى إلى عهد الاستعمار، معتبرين أنه لم يترك لنا أكثر من وكلاء بشعارات وطنية وقومية، لكن ليتهم أجادوا لعب الدور.
ما يحدث بين نقابة المعلمين والحكومة في الأردن استنفر الجميع واستثارهم، وأدخل القلق إلى كل بيت، علما بأن من مسئولية أهل الحكم بناء الثقة في النفوس، وملئ القلوب بالطمأنينة، لكنهم عملوا العكس عندما أوصلوا الأمور إلى مرحلة كسر العظم، و بدا أن الحكومة لا تحرص على المال العام إلا في وجه الفئات المطحونة، لكنّ هذه الفئات لم تعد تنظر للموضوع من زاوية ضيقة تتطلع منها إلى زيادات لا تغني ولا تسمن من جوع، بقدر ما تهدف إلى إنقاذ وطن من فساد يفتّ عضده، وأزمة حكم لا أزمة معيشة، وقضية عدالة لا تقبل المساومة أو التخاذل، ولم تعد تكترث بموظفين غير قانعين أو مقنعين، لم يكن أحدهم يوما رجل دولة أو في عقل الوطن أو ضميره، ويكفي هؤلاء بؤسا وعنجهية أنهم أصبحوا يطلبون المناصب لأنفسهم وأبنائهم وأنسباءهم وأقاربهم، دون ورعٍ أو خجل، أمّا إن جاء رئيس جديد من النادي إياه، وأنهى الأزمة في أيام، فلن يكن ذلك أكثر من مجرد ذر الرماد في العيون، لتسويق عبقريتهم في فك العقد وحل الأزمات التي ينتجونها بأنفسهم، بل علينا أن نؤمن أن هذا زمن الصابرين، حيث لم يعد الصبر ذاته يحتمل.