رمزي الغزوي
ذات مسغبة وجوع صعد أحد المجانين الظرفاء إلى شرفة مئذنة الجامع العالية؛ كي يرى الناس بحجم صغير، أي بحجمهم الحقيقي الطبيعي، لكنه ما أن وقف عالياً ونظر متأملاً، حتى اعتقد الناس أنه يتحفز للانتحار، بقذف نفسه إلى الأرض.
ولأن الحياة غالية جداً في هذه القرية العامرة، وأغلى من علبة كبريت كاملة، فقد دخلوا معه في مساومات ومناقشات حادة، كان هو الطرف الأقوى فيها، ليثنوه عن رمي نفسه، فوعدوه وعوداً كثيرة ومثيرة، وكانت طلباته تنصبُّ على تحسين رغيف الخبز، حجماً واتساعاً وشكلاً وسعراً، وشدد على أن يضاف للرغيف كل أنواع الفيتامينات والبروتينات والأنزيمات التي بات يفتقر إليها المواطن السقيم، صاحب الدم الفقير.
مجنون آخر في القرية ذاتها يسمى (أبو عقل ونص)، وهو صاحب نظرية أثيرة في أوضاع الناس وأوجاعهم، فالحالة دائماً إلى الوراء، والأمور إلى تدهور وخراب: (فالشهر الذي كنَّا ننوي أن نشتري فيه حذاءً، بعنا له الجوارب؛ كي نأكل)، ولهذا قرر أن يظل حافياً في شوارع القرية الملساء.
مجنون ثالث أذّن في الناس إلى أن تجمعوا، ثم اعتلى عموداً للهاتف، وسط البلدة، وخطب مزبِّداً وصارخاً ومحتجاً، وعقب خطبته العصماء البكماء، أعلن بالفم الملآن، بأنه واحتجاجاً على ارتفاع أسعار الخبز قرّر أن يبيع إحدى كليتيه، ليأكل بها، قراراً بائناً: ومالها العيشة بكلية واحدة!.
بعض المصابين بالفشل الكلوي، الراغبين بالتخلص من عناء غسل الكلى، تجمعوا في بيته، وكل قدم له سعراً أفضل من الآخر، فاتفق مع أحدهم، وفي اليوم المحدد لعملية نقل الكلية، تفاجأ الناس بمجنونهم العاقل يعتلي العمود ذاته، ويطلق خطبةً نووية جديدة، أعلن في نهايتها أنه عَدَلَ عن بيع كليته، فهذا لا يكفي أبداً، فالأسعار تركب صاروخاً نووياً، ولكنه قرر أن يبيع الكلية الثانية، والثالثة إذا وجدت، مع القلب بحجراته الأربع، والطحال والبنكرياس، والزائدة الدودية وغير الدودية، أي كل الطحاويش، قراراً بائناً لا رجعة عنه، وخلي الحكومة والتجار يرضوا ويحنوا أياديهم.
هذا وقيل أن جل سكان القرية ما زالوا يسيرون حتى هذا اليوم بلا أحشاء أو قلوب، ووحدها الأسعار لا تزداد إلا سعاراً.