رمزي الغزوي
لربما لا يستطيع إيمانويل ماكرون الذي جُدّد له عقد الإقامة في الإليزيه، أن يعيد ما صرح بها بعد فوزه الأول قبل خمس سنوات، من أن سبب نجاحه يعود إلى مساندة زوجته معلمة اللغة الفرنسية بريجيت ماكرون، وأن دورها في حياته لم ينته، لأن الفرنسيين لا يلتفتون مليّاً وطويلا إلى علاقات رئيسهم أو زيجاته، ويعدّون الأمر حرية شخصية لا مجال للخوض فيها. بل لا تعنيهم أحياناً حتى صفات من ينتخبونه، إذا تطلّب الوضع نقل جملة حسم واضحة الهدف دون أدنى بهارات تُذكر.
الفرنسيون يلقّبون رئيسهم القديم الجديد ب»جوبيتور»، فهم يرونه متعجرفاً، ذا نزعة تكبرية واضحة القسمات، حتى وإن كانت لا مقروءة أو محسوسة عند غيرهم. وجوبيتور هو كوكب المشتري في اللغة العربية. والعرب – بالمناسبة – لا يرون في أكبر كواكب المجموعة الشمسية هذا إلا سمات من الجمال والبهاء، وقد نال اسمه من قولهم حين يغازلونه: لقد اشترى الحسن كله.
أما جملة الفرنسيين الواضحة تجلت في أنهم يريدون رئيسا وسطيّا ليبراليّا ومواليا لأوروبا، أو بالأحرى قائدا لها، بدلاً من المرشحة الراديكالية ماريان لوبان، التي وضعت الأولوية الوطنية في بؤرة برنامجها، منتقدة الاتحاد الأوروبي، وحاملة لفكر يميني يرونه متطرفا، ويريدون إعاقة وصوله إلى سدة حكمهم، مع أن الأمر يبدو لي ممكنا بعد انتهاء ولاية ماكرون.
فأثر الخوف من ذلك اليمين في الثقافة السياسية الفرنسية ما زال ماثلاً للعيان، بل ويعيدنا إلى سيناريو انتخابات عام 2002 بين جاك شيراك ولوبن الأب حيث اقترع اليساريون لصالح الأول مبرّرين اقترافهم ذلك الإثم حسب قولهم: لقد فعلنا ذلك مع منديل على أنوفنا. كان شيراك في حينها مرشحاً لخلافة نفسه، كما هو ماكرون، الذي حصد أيضا أصواتهم، دون أن نتحقّق إن كانت المناديل غطت أنوفهم في خلوات حجرات التصويت.
رغم شعوري بالضيق إلا أن معلمة فرنسية التقيت بها في عمان قبل سنوات شرحت لنا طريقة طريفة يتبعها الفرنسيون في تعليم لغتهم لطلابهم، يطلقون عليها «تلفون العرب»، وفحواها أن تُعطي جملة واضحة لأحد الطلبة، ويُطلب منه أن ينقلها إلى زميله بطريقته، والذي عليه أن ينقلها إلى ثالث، حتى تصل إلى مستقرها الأخير لا تشبه البتة تلك الجملة التي نطق بها المعلم أوّل الدرس.
من الواضح أن الفرنسيين يعرفون قدرة العرب على الإبداع في إضافة البهارات والمحسنات البديعية والجمالية إلى الجمل حين ينقلونها إلى غيرهم، وخصوصا وهم يتحدثون بالتلفون. وهذه الطريقة يراها معلمو اللغات مفيدة وعظيمة تثري الخيال وتخصّبه عند الدارس، وتجعله قادراً على استيلاد كلمات جديدة ومعاني أخرى تسهم في إثراء مكنونه اللغوي.
خسارة لوبن الابنة لم تكن لقوة ماكرون ورضا الفرنسيين عنه في فترته الأولى، بل لأنهم لا يؤمنون بتكتيك معلمة اللغة في حياتهم السياسية أبداً، ولا مع زعمائهم أو مع مرشحيهم، حتى ولو طبقوها في تعليم لغتهم لأبنائهم. هم يتشبثون بدقة الكلمة وحرفيتها وعدم إنزياحها عن دائرة معناها في هذا المجال وأقرب دليل على هذا صدق استطلاعات الرأي في انتخاباتهم ودقتها.