ابراهيم غرايبة
ليس أمرا يدعو الى الاعتزاز تلك المزارع الأنيقة الواسعة التي يمتلكها أغنياء وشركات، وتشغل عمالة وافدة وتصدر لمستهلكين متعجرفين في الخارج أو في ضواحي عمان الغنية، فهي أعمال تستولي على الأراضي الزراعية والماء وتنشئ اقتصادا أوليغاركيا معزولا لا يعود بالفائدة على الاقتصاد والمواطنين، وببساطة فإن مؤشر الاقتصاد الاجتماعي هو في مستوى مشاركة المواطنين أو ما يستفيدونه ويعود على حياتهم ومستوى معيشتهم وكرامتهم، ولا معنى لشركات أو استثمارات لا يستفيد منها سوى أقلية من الناس، لكن وفي جميع الأحوال لا يجوز أن تمتد الاحتكارات إلى الزراعة.. فهذا القطاع هو خط الدفاع الاقتصادي الاجتماعي الأساسي للمواطنين لبناء منظومة اقتصادية اجتماعية.
الرواية الأساسية للمشاركة الاقتصادية والاجتماعية وبناء وتشكيل الهويات والعلاقات الاجتماعية والمدن والبلدات والمجتمعات تقوم حول المكان بما هو غالبا الزراعة ثم أسواق وأعمال ومهن وحرف تنشئ اقتصادا وقيادات اقتصادية واجتماعية..
ونملك فرصة معقولة لبناء اقتصاد زراعي يمكن أن يساهم في الناتج المحلي بأكثر من الربع ويشغل كليا أو جزئيا ثلث المواطنين .. وعلى سبيل المثال فإن رواندا وفيتنام الدولتين التي حظيتا بتقدير دولي واسع لقدرتهما على تحقيق نمو اقتصادي متسارع كانت روايتهما الاقتصادية والتنموية تقوم على الزراعة حيث يعمل في رواند 83 في المائة من المواطنين في الزراعة، ويعمل 52 في المائة من الفيتناميين في الزراعة. لكن الزراعة في الأردن لا تساهم في أكثر من 2 في المائة من الناتج المحلي! يحدث هذا في بلد ليس نفطيا ولا صناعيا!
يمكن على سبيل المثال إعادة النظر في اتجاهات الزراعة وأنماطها على النحو الذي يمكن أن يوفر اكتفاء ذاتيا غذائيا بنسبة 80 في المائة، وتصدير منتجات مصنعة أو نصف مصنعة، مثل مجففات التين والعنب وثمار اللوز والجوز والزعتر والسماق .. وهي أشجار يمكن زراعتها على نطاق واسع ضمن معدل الأمطار المتاح أو أماكن المياه والسيول الدائمة، وقد صار ممكنا تحلية المياه بكلفة معقولة جدا، تمكننا من الاستغناء نهائيا عن الاستخدام المنزلي للمصادر الطبيعية للمياه، هكذا يمكن توفير المياه المنزلية للمدن والبلدات على أساس تجاري ربحي وفي كلفة معقولة بل هي أقل بكثير من الكلفة التي تعلنها الحكومة لمياه الشرب والتزويد المنزلي، وفي ذلك يمكن المحافظة على المصادر الطبيعية وتوجيهها للزراعة ووقف النزف والضخ الجائر، ويمكن أيضا زيادتها بالمياه المكررة، وقد أصبح ممكنا أن تقينا تكرير المياه لتعود صالحة للزراعة بل وللاستخدام المنزلي!
وتستطيع الحكومة إعادة ومراجعة توزيع الأراضي الزراعية على النحو الذي يتيح لنسبة كبرى من المواطنين الذين لا يملكون أرضا أن يعملوا في الزراعة .. فالأراضي الزراعية اليوم تكاد تكون أراضي بلا مزارعين ومزارعون بلا أراض زراعية. الأمر يحتاج إلى موقف شجاع من الحكومة لوقف الإقطاعيات الزراعية والملكيات الواسعة لأراض في مقابل حرمان أعداد كبيرة من المواطنين من ملكية أو استخدام الأراضي الزراعية، ونحتاج بالطبع إلى مراجعة اجتماعية ثقافية لنواجه أنفسنا ونعيد تشكيل وصياغة حياتنا على نحو مختلف عن أسلوب الحياة السائد اليوم والذي يكاد يكون أسلوبا مكلفا وغير منتج وغير مفيد، لنعود كما كنا مواطنين منتجين، وكما هو أيضا سائد في دول ومجتمعات كثيرة حتى تلك المتقدمة والصناعية مثل أوروبا فإن العمل الزراعي فيها ما يزال مزدهرا، وعلى سبيل المثال يستهلك المواطن في شمال المتوسط من زيت الزيتون ثمانية أضعاف ما يستهلكه الأردني، وتنتج شجرة الزيتون هناك أكثر من عشرين ضعف ما تنتجه شجرة الزيتون في الأردن، لأنه وببساطة لا تجد أشجار الزيتون في بلادنا عناية واهتماما، ففي المعاينة والتجربة يمكن أن يكون إنتاج شجر الزيتون في بلادنا مساويا لأوروبا، ولكن ذلك يحتاج إلى عناية بالشجر بالسقاية والحراثة والتقليم والتسميد..