محمد متعب الفريحات
في زوايا الحياة اليومية، وبين أروقة المكاتب المغلقة والنفوس المزدحمة بالتوقعات، يعيش كثيرون وهم السعي إلى المثالية، ويغرقون في محاولة إرضاء الجميع. يعطي الإنسان من قلبه، ومن صحته، ومن عمره، يقتطع من روحه ليصنع شيئا يليق بالآخرين، ليحظى باعتراف أو كلمة تقدير أو حتى شعور بسيط بالانتماء. ومع ذلك، فحين تحين لحظة الحساب، كثيرا ما يتهم بالتقصير.
هناك من يظن أن الوفاء يكافأ، وأن الإخلاص درب مختصر نحو الأمان الوظيفي والاحترام المهني، لكنه يكتشف متأخرا أن العطاء بلا حدود لا يعني شيئا في ميزان من لا يرى إلا النتائج المجردة، أو من ينسى أن خلف كل إنجاز قلبا ينبض وتعبا لا يرى. يعمل الإنسان لسنوات، يصمت عن حقه، يبتلع خيباته، يضحي بحياته الأسرية، ويؤمن بأن جهده سيقدر في النهاية، لكن النهاية لا تأتي كما توقع. بل تأتي قاسية، باردة، مجردة من الإنسانية. يقال عنه إنه فشل، وإنه لم يكن على قدر المسؤولية، وكأن كل ما فعله تلاشى في غمضة عين.
هذا العالم لا يتذكر كم مرة جاهدت لتحتوي أزمة، أو كم مرة أخفيت حزنك لتبتسم في وجه من حولك، أو كم ليلة سهرت فيها تفكر في حل لا يخصك وحدك. لن يحتسب لك عدد المرات التي دفعت فيها ضريبة الصمت، ولا اللحظات التي أحسنت فيها النية وخاب ظنك.
يقول الكاتب الأمريكي واين داير: “افعل ما هو صواب، لا ما هو مقبول فقط، حتى لو لم يصفق لك أحد.” وهذه ليست دعوة للعزلة أو للتمرد، بل لتوازن عاطفي ونفسي يحفظ للإنسان نفسه من الانهيار في دوامة التقييم المستمر.
إن محاولات الإنسان الدائمة ليكون كما يريد الآخرون، أشبه بمن يشعل شمعة في مهب الريح، يراها البعض نورا مؤقتا ثم ينصرف، ولا يعرف أحد كم كلفته تلك الشعلة من صبر وحياة. لذلك، لا بد للمرء أن يتوقف عن محاولات الإرضاء المستمر، وأن يصون ذاته من الانهيار، وأن يحفظ كرامته من الذوبان في بيئة لا تعرف سوى الحساب الرقمي.
العدالة في الأرض نسبية، مشوشة، قد يعلو فيها الصوت على الحق، وقد يكافأ المتخاذل ويدان المجتهد. أما عدالة السماء، فهي وحدها التي لا تخطئ، ولا تتأخر، وإن تأخرت في أعيننا. الرزق بيد الله، لا يمنح بوساطة ولا ينتزع بالحيلة. والإنصاف الحقيقي لا يأتي من أفواه الناس، بل من ضمير الإنسان حين يضع رأسه على الوسادة ويعرف أنه لم يقصر مع نفسه ولا مع من حوله.
قال علي بن أبي طالب: “كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب.” وهذه حكمة بالغة في وقت يستنزف فيه الإنسان من كل الجهات، ويطلب منه أن يكون متاحا دائما، مستعدا للتضحية، ولا يسامح له بالخطأ.
احترام الذات ليس أنانية، بل ضرورة. معرفة قدراتك وحدودك لا تعني الضعف، بل النضج. فلا تحرق نفسك لتدفئ قلوبا لا تبالي، ولا تجعل رضا الناس ميزانا لرضاك عن نفسك. عش حياتك بما تملك، واصنع الخير لوجه الله، لا لوجه البشر، فالبشر ينسون، أما الله فلا ينسى.