أ. سعيد ذياب سليم
مثلما يفعل الاطفال .. يلعبون، يرسمون، يقرأون، يحلمون لكنهم مختلفون ، تشعر بهم و يصعب عليك أن تكتشف وجه اختلافهم عن بقية أطفال العالم حتى تجتمع لديك قطع الأحجية، قد تبدو رواية عاطفية خاصة عندما تشاهد “كاثي” تحتضن وسادتها وتراقصها مغمضة العينين على أنغام أغنية عاطفية :” عانقني و لا تدعني أرحل أبدا يا حبيبي” .
يعيشون في مدرسة داخلية و بين معلميهم – الوصاة Guardians – يتعلمون عن الحياة و الفن ويقدمون أعمالهم الفنية التي يتم الاحتفاظ بأفضلها من قبل “المدام” للمعرض، والذي يبقى لغزا حتى الجزء الأخير من الرواية.
يروي لنا “كازو إيشيغورو Kazuo Ishiguro ” الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2017، ما تتذكره ” كاثي ” أيام تواجدهم في “هيلشام Hailsham ” و علاقتها بكل من ” روث” و ” تومي” ، كيف كان تومي يفقد أعصابه و تهاجمه حالة هستيرية يعلو فيها صراخه محركا يديه بعصبية عند مضايقة زملائه له و تعليقاتهم حول انتاجه الفني الذي يخلو من الابداع ، وكيف نسجت الأيام العلاقة بين مثلث الحب هذا في مراحل مختلفة من “هيلشام ” و انتقالهم إلى “كوتجيز Cottages”، اهتماماتهم و اختلافاتهم ثم تصف لنا اكتمالهم في النهاية.
أثناء تواجدهم في ” هيلشام ” تتساءل من أين أتو؟ لا تسمع ذكرا للأسرة ولا تشعر برابطة أسرية طبيعية يتمتع بها أحدهم دون غيره ، هم فقط و الوصاة ، تقترب منهم لتتعرف على حكايتهم التي تفاجئك أخيرا على لسان معلمتهم “لوسي” بعد سماعها لأحاديثهم الطفولية، بعضهم يحلم بالسفر أو التمثيل أو العمل في مزرعة فتقول ثائرة: ربما قيل لكم و لكن ليس كل الحقيقة ، لن تنفذوا شيئا من أحلامكم هذه ، فقد تم التخطيط لحياتكم مسبقا، ستكبرون و قبل أن تصلوا إلى منتصف أعماركم ستبدأون بوهب أعضائكم للآخرين وهذا السبب الوحيد الذي من أجله خلقتم ، لتكتشف أنهم مجموعة مستنسخة للإستفادة من أعضائهم.
أن تكون حقل حصاد لأعضائك الحيوية ، تهب ليحيى الآخرين و تنتظر اكتمال رحلتك التي قد تطول لتهب عضوك الحيوي الثالث و إن كنت محظوظا قد يكون الرابع – يا له من حظ رائع أمام من اكتملت رحلته بعد أن يهب عضوه الحيوي الأول !
“إكتمال “completeهو المصطلح الذي اختاره ” كازو إيشيغورو” ليدلل به على الموت و الذي يذكرنا كلما أغولنا في الرواية أن الغاية من وجود هؤلاء الشخصيات هي وهبهم لأعضائهم الحيوية فإذا اكتملت مهمتهم انتهت أسباب وجودهم ، ربما يتركوا معلقين بين الحياة والموت بواسطة الأجهزة الداعمة للحياة لبعض الوقت في انتظار إغلاقها وهم في رعب اكتشاف الحقيقة ;هل اكتملوا !
أهو البعد الرومانسي للموت – اكتمال الرحلة- أن تذهب بهدوء و بدون مقاومة تتقدم لتعانق النهاية بإذعان و رضى تام فلا مهرب فهذا هو المخرج الوحيد من البحر الذي تتلاطم فيه الأمواج ليصبح الموت ترفا و مصدرا للسعادة! أو كما قال على لسان ” ميس إميلي ” : في وقت ما يجب أن ترضى بالكيفية التي تحدث فيها الأشياء في هذا العالم ، تنضج في مرحلة معينة فتأخذ الآراء و المشاعر مجرى مختلف .
تعتلج نيران الثورة في صدر القارئ و هو يشاهدهم يسيرون في طريق حياتهم المرسوم دون أن تبدر عنهم أي مقاومة أو رفض أو ثورة ، ينتظر كل منهم إشعارا يحدد فيه موعد وهبه لعضوه الحيوي التالي، وكأنهم حيوانات مزرعة. كل ما يحلمون به هو التأجيل إذا وجدوا الحب ليعيشوا ثلاث سنوات مع من يحبون ، هل يمكن الحصول على تأجيل ؟وكيف؟
تزداد الخيبة لدى القارئ عندما تنتهي رحلته مع “تومي” و “كاثي” لدى “المدام” في محاولتهم الحصول على تأجيل من خلال تقديم “تومي” للوحاته التي تفتح نافذة على مشاعره و شخصيته الروحية كدليل على حبه ، لنكتشف أنها إشاعة و أن “هلشام” كان مشروعا لرعايتهم و للإثبات للعالم أنهم يمتلكون أرواحا كمثل غيرهم من البشر عن طريق عرض إنتاجهم الفني لكن ظروفا عدة اجتمعت و أدت إلى فشله.
ماذا قدم لنا “كازو إيشيغورو” في روايته هذه ؟ أهي قصة خيال علمي يناقش فيها أخلاقيات الإستنساخ الذي سيكون حلا لأمراض كثيرة في المستقبل أم قدم لنا قصة رعب تتحرك فيها الشخصيات و كأنها دمى تحركها يدي القدر ؟ أم يرثي بها حياتنا نحن التي تنتهي بالموت ؟ كيف نتصرف أمام الموت و ما هو المهم في هذه الحياة القصيرة أهو الحب ، الصداقة أم الأخلاق و انعكاسها على سلوكنا؟
تنتهي الرواية مع “كاثي” التي تتجه شمالا إلى “نورفلك” لقضاء فترة ما قبل البدء بوهب أعضائها باستسلام غريب تقف بجوار الطريق في حقول خالية ترى الأشياء التي تأتي مع الريح و تعلق بالأسلاك الشائكة ، تتخيل “تومي” الذي اكتمل منذ اسبوعين قادما من بعيد فهنا تنتهي الأشياء الضائعة ، لكنها تمسح دمعة وتكمل طريقها، كلهم رحلوا “روث” و ” تومي” وهي أيضا في الطريق.
قدمها للسينما المخرج “مارك رومانيك Mark Romanek” في فيلم يحمل نفس عنوان الرواية “Never Let Me Go” ، لكل من الرواية و الفيلم متعته الخاصة به ،أدعوك لتجربتها و التعرف على هذا الكاتب المتميز الذي يرينا الأشياء بمنظور مختلف.