رمزي الغزوي
منذ أسبوع أعيشُ في برزخ حلمٍ وعلمٍ. في الصحوةِ الخاطفة أغمضُ عينيَّ بقوّة جاسرة؛ علّ غفوةً سانحة تأخذني ولو للحظات إليك. وأفتحهما بفزع في الغفوة لأتشبث بحلم يتفلفلُ لطيران سريع خائف. أين أنا؟ أين أنتِ؟. أنظر في جهاتي الست. لا أحد يجيب. لا أحد. حتى الصمت لم يعد معنيا برد الصدى.
تتماهى عليّ الأماكن والروائح والأغاني والدموع والضحكات والحكايات يا أمي، وتختلط في عروقي دماء الأزمنة الثلاثة. أهذا وعدك أن تحرسي طفلك الكبير من كل شكّ وألم وتيه؟. ما عدت أميّز بين شمس تسلقت جبلاً، وأخرى تذوب خلف الآفاق. لست أدري إن كنتُ أعيشُ ماضياً في حاضر، أم حاضرا في ماض بعيد. مرةً أراني طفلاً ملطخا بالطين يلعب في السهل، ويفزع دجاج الجيران ويناكف البنات. وبلمحة ضوء أصير شيخاً يتلكأ بعكاز العثرات تثقله ندوب الدموع.
أقترب أكثر، وأمسّد على وسادة كانت عامرة بالوجه الصبوح. تقوى الرائحة أكثر وهي تسحبني إلى يدك؛ فأنهال عليها باللثمات. ياااااااه كي شيهة يدك المتبعة المعرورقة يا أماه. كم أحبها هذه الصابرة على وخز الإبر والعلاجات. فأصرخ فيهم أن كيف تسلل البرد إليك؟. فلا يجيبون. أصرخ أن هذا ليس موتاً. هو نوم خفيف. بل هو الموت يقول القائلون بدموعهم. فأصرخ في الكون أن اطفئوا الشمس، واجّلوا الربيع، واوقفوا المواسم.
من قال إن الأم تموت. لا تموت الأم أيها الموت. أنت تفهم هذا. أمي سمتْ نجمةَ صبح ستوقد لنا سراج الحياة مطلع كل نهار. ستصير شفقاً مبثوثاً يبهجنا على عتبات الغروب. غيمة تسيح مكتنزة بالخصب في حيرة نيسان. دحنونة لاذت في حضن حجر. بيت عكوب تغرقه طراوة العشب في سفوح «البدية». دمعة ندى حطت على ورقة عنب رقيقة.
لا تموت أمي. هي رائحة التراب على مفارق تشارين. المطر الأول هي والأخير. لثغة الزيت البكر. بركة الموسم ومفتتح البيادر المترعة. همهمة الحصادين في منتهى أيار. لكنة الزعتر الفارسي، وحلاوة خبز القمح يغني في الشفتين. أمي ضحكة طفل دغدغه شوك ذقن أبيه. تراويد الخالات في حناء العريس. أهازيج لقاطات الزيتون حين تفتر همة الفراطين.
لن تموت أمي. خشخشة سماعة جامع كفرنجة الكبير. تكبيرة الفجر. لمة الأحفاد الصاخبة في يوم العائلة الكبير. بسمتها اللذيذة إذ تأمرنا ألا نعكر صفو لعبهم. قواوير الزريعة العائدة إلى نشوة الحياة حين تمرين عليها. توتة الدار لما تؤول إلى عسل أسود. نعنع خفيف في الشاي. قهوة فنجانين خزفيين نحبهما.
أمي أول النرجسات البريات في ذرى «أم الصوان». حبة فطر تباغتني في سفوح «الشطورة» أيام المطر الراعد. حقل شعير يموج بحرا أخضر في سهول «قافصة». تينة مشطبة من فرط النضج في «رأس العين». هدوء دبين والشارع المسيج بحرز الأشجار الحانية. ساق شجرة قيقب تحمرُّ في حزيران. حورة تميس بغرور في وادي الطواحين.
أمي روح تهدلُ على «وادي العريس»، طيف يحرس غابات «أم الدرج»، وصوت خالد يسري في «حارة الحدادين».