د. عبير الرحباني
في اليوم العالمي للغة العربية دعوني افرغ ما بداخلي من الحزن العميق على ما آلت اليه لغتنا العربية، والتي تعتبر وسيلة التواصل الاجتماعي والحضاري، والآداة المعبّرة عن منجزات العقل وابدعاته، ووعاء الفكر وشريان الحضارة ودليل الوجود لأي أمة.
فما أحوجنا اليوم الذي هبط فيه مستوى كل شيء ان نتمسك بشيء واحد ونرتقي به ألا وهو لغتنا العربية، التي باتت تنقرض شيئا فشيئا وتبعث على اليأس، حيث بات ضعفها يفسد السنتنا ويعطل افكارنا ويشل من قدراتنا الذهنية.
ولا نستطيع ان ننكر بان تطور تكنولوجيا الاتصال ووجود الثورة الرقمية باتت تشكل تهديداً خطيرا على التنوع الثقافي واللغوي، إضافة لسيطرة وإحتكار الشركات العالمية متعددة الجنسيات بخاصة على دول العالم الثالث، ما أدى لتعريض الذاتية للخطر الناجمة عن التبعية الفكرية والثقافية التي لا تقل عن التبعية السياسة.
وصحيح ما يقال بان اللغة العربية ليست لغة انتاج علمي ولا نحتاجها لاي بحث علمي متطور، وربما لا تحتاجها الجامعات، ولا المطارات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه!! اين سنستخدمها اذا كان هذا هو الواقع ؟ وهل هناك واقع اخر؟ بالتأكيد نعم، هناك واقع اخر حيث تقول البحوثات والتقارير العلمية: إن اتقان اللغات الاخرى يتطلب إتقان اللغة الأم، أما الإبداع باللغات الاخرى فهو شرط أساسي لإتقان اللغة الأم.
وعلى سبيل المثال. فان الشاعر العظيم جبران خليل جبران عندما بدأ الكتابة بدأها بلغته الأم ( اللغة العربية) فكان كل خياله وافكاره وباطنه وما وراء فلسفته نابع من محيطه القروي البسيط، حيث كان من خلال سماع صوت معين او فكرة معينة او حاسة معينة.
وعندما بدأ يكتب بالإنجليزية كان لديه مخزون فكري كبير، حيث ان القارىء لكتاباته لم يشعر بالفرق ما بين كتابات جبران باللغة العربية وما بين كتاباته باللغة الانجليزية، لانها حتماً هي نفس الرائحة ونفس الشعور ونفس الإحساس الصادق. فهذا الشاعر الكبير الذي أبدع باللغة الإنجليزية هو نفسه الذي أبدع بلغته العربية.
ويقولون “اذا اردت ان تقتل شعباً فالطريقة الوحيدة هي ( قتل لغته)”، وهذا الواقع لا تعرفه ولا تدركه إلا الشعوب المتطورة والدول المتقدمة كالألمان وامريكا وروسيا وفرنسا، التي تسعى جاهدة لسن القوانين لحماية لغتها بحيث تعمل على تقديسها والعمل على الانتاج بها، حيث تدفع مبالغ هائلة لتطويرها. فلا يمكن لأي أمة ان تدّعي الاستقلال اذا كانت تحت سيطرة الاحتلال الفكري مهما كان هذا الفكر حيث لعبت الشركات متعددة الجنسيات في نقل ثقافتها ولغاتها من خلال امتلاكها قاعدة استهلاكية حقيقة على المستوى الدولي.
ونجد ان الدول التي بدأت بالتطور والسعي لتنمية بحوثاتها لملاحقة الدول المتطورة سعت للمحافظة على لغتها واعتبرتها جوهرة ما بين يديها تحافظ عليها كلما صعدت درجة نحو سلم التطور والتقدم.
فاللغة ليست مجرد كلام يقال او يكتب بل انها تمثل مراحل معينة من مراحل حياتنا وعاطفة مرتبطة بنا وبمفردات ومصطلحات لغتنا الام، كأن نكتب او نتحدث عن الانتماء، مفهوم الحرية، ذكرى الاستقلال، الوطنية فهذه المصطلحات بالتأكيد مرتبطة بمراحل معينة من حياتنا وبعاطفتنا وبأحساسينا واتجاهاتنا ايضاً ولو قلنا هذه الكلمات او تحدثنا بها بلغة غير لغتنا فلن نشعر بنفس الاحساس والشعور والانتماء لان هذه التعابير تذكرنا باشياء مرتبطة بتاريخنا وحضارتنا وثقاتنا وجهادنا ضد الاستعمار.
ولا بد ان نعترف اليوم بأن لغتنا العربية باتت في خطر نتيجة الإستعمار الالكتروني الذي بات يشكل خطورة كبيرة على اللغة الأم الا وهي لغتنا العربية، بحيث اصبحت لغتنا العربية تضمحل امام هذا النوع من الاستعمار الخطير الذي يسعى الى تهميشها شيئا فشيئا وإضمحلالها رويداً رويداً في معظم مؤسساتنا وجامعاتنا وبين ابنائنا وطلابنا وحتى في إعلامنا، بحيث تناسينا ان لغتنا العربية هي التي تجسد أنماط التفكير والسلوك الحضاري والأخلاقي وهي اللغة الرئيسة للتخاطب والحوار، وهي التي تمثل إنتماءنا لوطننا ولعروبتنا.
ونجد بان الجانب الاعلامي مقصر بحق اللغة العربية بخاصة مع ظهور الاذاعات الخاصة والقنوات الفضائية، فالغاية من الكلام والمحادثة في وسائل اعلامنا هي ايصال الرسالة واقناع الناس بها، والاقناع لا يكون بالحجة والمنطق والبرهان فحسب، بل بسحر المنطق وجاذبية الكلام المرتكز على قوة اللغة ورزانتها، بخاصة ما يتضمنه النص الاذاعي والتلفزيوني.
فكيف للرسالة الاعلامية ان تكون قوية ومقنعة من دون الإستناد الى لغة عربية رصينة وقوية!! ، وكيف يمكن للرسالة الإعلامية بأن تحافظ على جمال وقوة مضمونها اذا افتقدت اللغة العربية السليم!!!. . فمهزلة ان تكون تسمية عناوين اغلب البرامج التلفزيونية والاذاعية في اعلامنا العربي بلغة غير العربية.
في هذا الإطار لا اريد التقليل من شأن اللغات الاخرى واستخدامها لأن اللغات الأخرى ادوات قيّمة للاتصال والتواصل الانساني والتبادل الثقافي، ولكن ان تكون على حساب لغتنا بحيث تؤدي الى تخلخل قواعدها وتفكيك فهذا عيب مشين.
فما نسمعه وما نقرؤه من حروف وكلمات عربية ركيكة ومتخلخلة يجعلنا نضع اللوم على الآباء قبل الأبناء وعلى المدارس قبل الجامعات، وعلى إعلامنا العربي قبل المؤسسات والذي يعتبر حلقة الإتصال والتواصل الرئيسة.
فمتى يحقق إعلامنا العربي وظيفته كاملة في الحفاظ على اللغة العربية ؟ حيث ان وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً في اطار التنمية اللغوية لان اللغة حجر الاساس في العملية الاعلامية وكلما كانت سليمة في ايصال رسالتها كلما كان إعلامنا ناجحاً ورسالتنا واضحة خالية من الشوائب ومقنعة ايضاً.
وقد قال ابن خلدون في اللغة العربية: “ان اللغة بغلبة اهلها وان منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الامم”. فكيف لنا ان نقول عن انفسنا باننا عرب ونحن لا نحسن استخدامها بشكل سليم وصحيح؟
ان العرب لديهم سلم من الدرجات في علاقتهم مع اللغة القومية، فالبعض يتقنها والبعض يحسن القليل منها والبعض يتعثر والبعض يتلعثم بها والبعض يخجل منها ويصمت.
ولو نظرنا للشعب الفرنسي مثلا لوجدناه يُحسن في لغته في أي من مستوياتها ، ومثله الشعب الالماني والانجليزي وشعوب اخرى، ما يدل على انه لا يوجد شعب بالعالم علاقته بلغته القومية مهتزة إلا الشعوب العربية التي هي خليط لحضارات ولغات يونانية ورومانية وتركية…الخ .
وما نشهده اليوم من استخدام للغة العربية عبر الوسائل التكنولوجية ( كالهواتف النقالة والانترنت وما يتضمنه من رسائل إلكترونية) بطريقة شوهت اللغة وحروفها ومكانتها هو قمة المهزلة. لغة حروفها عجيبة غريبة كأن نكتب مثلا كلمات عربية بحروف غير عربية.
والمشكلة اننا نحن الذين نشجع على انقراضها، فاستخدامنا لهذه الوسائل لا يعني ان نشوه لغتنا ونضعف من قيمتها ومكانتها، فقمة المهزلة تكمن في عدم قدرتنا على تكوين جملة عربية مفيدة نستطيع من خلالها ايصالها للاخرين. فلماذا نستحي بلغتنا؟ ولماذا لا نتكلم جملة عربية واحدة إلا وادخل معظمنا فيها كلمات غير عربية؟ وكأن استخدامنا لها نطقا وكتابة سيقلل من شأننا ومكانتنا، بينما استخدامنا للغات اخرى كما يعتقد الكثيرون سيرفع من شأننا.
فعار علينا إن لم نتحدث بلغتنا ونتقنها ونحسن التعبير بها. وعلينا ان نعتز ونفتخر بلغتنا العربية التي تعبر عن انتمائنا لعروبتنا فهي عنوان هويتنا وثقافتنا وادابنا وفنونا، كما انها دليل وجودنا على هذه الارض.
وفي هذا الاطار هناك سؤال يطرح نفسه، كيف لنا ان نطالب بوحدتنا العربية ونحن نعجز كل العجز عن تحقيق وحدتنا اللغوية ؟ بخاصة في ظل الاستعمار الالكتروني الذي يسعى الى طمس لغتنا وإذلالها. فبدلاً من ان نواجه هذا الاستعمار بالمحافظة على لغتنا، للاسف نحن من نساعد على هذا الطمس وهذا الإذلال للغتنا.