د. محمد ابو رمان
إحدى القضايا الرئيسية التي صعدت إلى ذروة النقاش السياسي الأردني الداخلي ما تسمّى المعارضة الخارجية، من خلال مجموعة مؤثرة من السياسيين والناشطين والإعلاميين، الذين أصبحوا ظاهرة لافتة في توجيه الرأي العام، والتأثير عليه، عبر برامجهم المباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي يصل مشاهدوها إلى عشرات الآلاف، وفي بعض الأحيان مئات الآلاف.
لستُ بصدد مناقشة أطروحاتهم إيجاباً أو سلباً، لكن السؤال الرئيس هنا، المفترض أن يأخذ مساحة كبيرة من التفكير لدى المسؤولين في البلاد: لماذا أصبح هؤلاء بهذا الحجم والتأثير خلال الشهور الماضية، في مقابل تراجع ملحوظ لأدوار الإعلام المحلي وأحزاب المعارضة التقليدية؟ والسؤال الآخر: ما هي الدلالات المترتبة على هذا الحضور الواضح لهم خلال الفترة الماضية؟
لا يمكن الفصل بين هذه الظاهرة وما يعانيه الإعلام الداخلي، في الآونة الأخيرة، بشقّيه الحكومي والخاص، من تحجيم وضغوط، مقارنة بالسقف المرتفع للناشطين في الخارج، وهذه محصلة طبيعية تستدعي تغييراً جوهرياً في طريقة التعامل مع الإعلام الداخلي، فلم يعد عالم اليوم يصلح لعقليات محافظة تقليدية تعتقد أنّها إذا حجبت خبراً هنا أو مقالاً هناك، أو قيّدت الحريات في الإعلام المحلي، ستتحكم بالمشهد. لأنّ النتيجة هي ازدهار المعارضة في الخارج، وتوجه المواطنين إلى الاستماع لها.
تتمثل الدلالة الرئيسية في الظاهرة الجديدة في حجم الحضور والمشاهدة من المواطنين، ما يعكس وجود أزمة في الداخل حقيقية وكبيرة، طالما أنّ هنالك عشرات الآلاف من ينتظرون سماع التحليلات والآراء المعارضة من الخارج، فهذا يعني أنّ الرأي العام متوتر، وأن المواطنين يشعرون بالقلق، وأنّ حالة من عدم الرضى منتشرة ومتفشية في علاقة الدولة بالمجتمع.
الدلالة الأخرى أنّ مواقع التواصل الاجتماعي ليست “لاعباً ثانوياً” أو هامشياً، يمكن تجاهل تأثيرها، فهذه المواقع اليوم تعيد تشكيل المجال العام كاملاً، وتغيّر تعريف الفاعلين الإعلاميين والسياسيين. لن يجلس المواطن اليوم ينتظر أخبار الساعة الثامنة على التلفزيون الرسمي، ولا حتى ما يسمح به من تقارير وأخبار ومقالات في الصحف اليومية، بل أصبح “المواطن الإعلامي” هو من يصنع الخبر، وينقل الحدث ويسجل الملاحظات، ويضع الأولويات، عبر الهاشتاغ والعواصف الإلكترونية والبث المباشر.
في الوقت الذي غاب فيه الإعلام المحلي، بدرجة كبيرة، عن تغطية احتجاجات إحياء ذكرى 24 آذار (انطلقت دعوات إلى إحياء الذكرى العاشرة لاعتصام 24 مارس/ آذار على دوار الداخلية في عمّان في ذروة الربيع العربي 2011)، فتح نشطاء إعلاميون في الخارج بثا مباشرا ونقلوا الأحداث والاعتقالات إلى عشرات الناشطين بعدها، فاستقطبت كالعادة عشرات الآلاف من المشاهدات والمتابعين.
لن تُجدي، كذلك، محاولات إيقاف البث ولا منعه، عبر تقييد جزئي لمواقع التواصل الاجتماعي، فالتقنيات اليوم في هذا المجال أوسع وأكبر من محاولات الحجب أو التحجيم، بخاصة في دولة مثل الأردن، ليست كالصين أو الدول الشمولية. وقد لاحظ المتابعون كيف أنّ آلافا من الأردنيين توجّهوا خلال الفترة الماضية إلى التطبيق الجديد Club House، الذي فتح المجال لمناقشات وحواريات بسقوفٍ مرتفعةٍ وعالية، استقطبت حتى النخبة السياسية العريضة في البلاد! في مثل هذه الظروف، لن يؤدّي اعتقال مائة ناشط سياسي في الداخل ومحاكمتهم إلى إنهاء الحالة المتصاعدة من الغضب والاحتقان، والحراك الافتراضي حتى إن لم يترجم على أرض الواقع لا يستخفّ به أو يقلل من شأنه، فأهمية العالم الافتراضي وقيمته أصبحت تضاهي تماماً العالم الواقعي، إن لم تكن الحدود الفاصلة بينهما قيد التلاشي والاضمحلال.
بالنتيجة، وحدها سياسة الانفتاح تسمح بإصلاح العملية السياسية في الداخل واستيعاب جيل الشباب المتعلّم والناشط في أروقة العمل السياسي الإصلاحي، والقبول بفتح الباب للإعلام المحلي، ليكون فاعلاً ومؤثراً، والحوار الموضوعي والحرّ ليأخذ دوره في الداخل، لأنّ البديل هو مزيد من التأزيم وتوسيع الفجوة وبث الشكوك، وتجذير حالة عدم الثقة بين الحكومات والشارع.