د. موسى برهومة
مرّ بنا «الفالنتاين» واحتفل عشاق كثيرون بعيد الحب، وطرّزوا بالأحمر أوقاتهم وأمنياتهم. ازدهى الورد الجوري، وتباهى بين أقرانه في الحديقة، وسال على أعطافه ندى الخيلاء.
ذرفت كلماتُ الحب دمعاتها، وسعى عشاق إلى ابتكار تعابير جديدة، في حين اكتفى آخرون بما هو جاهز على البطاقات، أو عبر شبكة الإنترنت. فاضت عبارات الحب، واستطالت لحظات الدفء الودود في هذه البرهة الكونية البهيجة.
عهدُنا في الحب وفي بهاء «الفالنتاين» ممتد منذ اللوعة الأولى التي خفقت بين أضلعنا وسهّدتنا. لكنّ آباءنا العظيمين، لم يكونوا يعلمون ما «الفالنتاين»، وإن هم علموا، فما كانوا يُولون الأمر الأهمية التي تتجلى عليها هذه الأيام. ورغم ذلك كان آباؤنا عشّاقاً أفذاذاً.
ثمة، كما استقرّ في يقين الآباء المبجّلين، حبٌ غيرُ ناطق، لكنه يمشي بخطى حثيثة، ولو على قدمين متعبتين، وبأنفاس متقطّعة. فالذين شقّقت الحياة أياديهم وأرواحهم، فداءً لابتسامة تشرق دوماً على وجوه أطفالهم، كان الكلام عصيّاً على ألسنتهم. هم وحسب يتقنون ابتكار الحياة، بكل جموحها وضجيجها وانكساراتها. المهم في آخر النهار أن يحمل الرجل في يديه أكياساً من الخضار والفاكهة والخبز، وقليلاً من الحلوى والكستناء، إن قُيّض له ذلك.
كان العشق في نظرهم مغايراً. كان صموتاً، شجياً، عذباً، يقتضي الكفاح، ودونه لا ضيرَ لو سال دمٌ من الكف أو المرفقين. كانوا يكدّون لئلا يشعر أهل البيت، المضاء بالآمال الشحيحة، بأي ضيق. يسلخون من جلودهم، كي تنام العيون آمنة مطمئنة، وتظل عيون الآباء ساهرة تحدّق في ألواح الزينكو التي حوّلتها أصوات الريح إلى أوركسترا صاخبة هاذية تتفلّت من أسر المسامير.
آباؤنا العشاق العظيمون، ياما نامت الدمعة قرب وسائدهم المبلّلة بالشجن الحرّاق. لا بأس. المهم ألا يئنّ طفل، أو تشكو فتاة، أو تلوم الكونَ زوجة تحبّ هي الأخرى بصمت فادح، وتتطلّع إلى السماء متضرعة، كل مشرق شمس، أن يكبر الأبناء، وألا يصيب الرجل أيُّ سوء، وأن يرزقه الله من حيث لا يحتسب. كنّ زوجات يعجنّ الصبر على نار الأمنيات.
وليست الصورة مثالية، كما يتخيل بعضهم. إنه مشهد طبق الأصل عاينّاه، نحن الذين ورثنا عن آبائنا جينات الوفاء والولاء والعطاء بلا حدود. تلك نعمة الأبوّة التي لا يدركها إلا مَن كان له أب بارع في الحب بصمت وسخاء.
كنا (وأنا لست منهم، إذ رحل أبي مبكراً، وتركني أراقب أقراني الآخرين) نرى الآباء يعودون بعد مغرب الشمس، وقد تعفّرت جباه بعضهم، وبدا بعضهم قادراً على المشي بصعوبة، ولم تكن أياديهم فارغة يوماً، إلا مَن فاز من الغنيمة بالإياب!
وحينما يدقّ الأبُ بابَ البيت الآيل للخشوع، كانت شمس أخرى تشرق. روحه تملأ المكان، بِشر يديه، التعب الفتاك في الظهر والسيقان، الكف الخشنة التي روّضت الصخر وعجنت الحديد. اللمسة التي يربّت بها على رأس ابنته التي تتأمل أباها كما لو أنها تراه للمرة الأولى.
في ذلك الحين كانت «لمّة» العشاء حدثاً يومياً تنتظره العائلة التي تحدّق بخيلاء في هذا الرجل الذي تعصف به المتناقضات، لكنه لا يبوح ولا يشكو، ولا يتبرّم من هذه الدنيا غير العادلة.
هكذا كان يجري الحب على أيدي هؤلاء الذين ينتسبون إلى سلالة العشاق الأفذاذ والنادرين، ممن ورثوا قلة الكلام عن الحب، وكثرة العطاء فيه.
أدرك أولئك العشاق البؤساءُ أنّ الحياة لم تكن كريمة معهم كما كانوا كرماء مع من حولهم. وعلموا بحدسهم، الذي لا يخطئ، أنّ العيش قصير، لذا مضوا يؤثثونه ببهجات قليلة تسعفهم حينما تخذلهم قلوبهم الهشة وأطرافهم التي هدّها الروماتيزم، وبراها الضغط والسكّري.
كانوا يعلمون أنهم سيموتون سريعاً. لكنّهم عاشوا الحياة بما يليق بالمقاتلين النبلاء، ولم يعرفوا التراجع ولا الإقرار بالإخفاق والخسارة. قهروا ضعفهم في النهار، لكنّ دموعهم كانت تهزمهم في الليل. آه لو تبوح الوسائد المبلّلة بالشجن!