
سهم محمد العبادي
أن تكون أردنيًا لا يعني أن تحمل بطاقة هوية زرقاء، أو جواز سفر أحمر، أو أن تحفظ النشيد الوطني عن ظهر قلب. أن تكون أردنيًا يعني أن يكون الوطن فيك قبل أن تكون فيه، أن تشعر بثقله على كتفيك، بحضوره في قلبك، بصدى اسمه في صدرك كلما ناداك المنادي. أن تكون أردنيًا يعني أن ترى الأردن في كل شيء، في فنجان القهوة المُرّة التي تُصب في بيت شيخ العشيرة، في صوت الربابة في ليالي البادية، في هسيس سنابل القمح عندما يمر بها النسيم، في دفء المواقد التي تجمع الرجال حول النار، في بساتين جرش وعجلون، في حجارة الكرك العتيقة، وفي هواء معان الذي يعبق برائحة التاريخ، وفي صدى البحر، وهو يرتطم بموانئ العقبة.
أن تكون أردنيًا يعني أنك لا تساوم على ترابه، لا تجادل في قيمته، ولا تضعه في قائمة الخيارات القابلة للمقايضة. الأردن ليس فندقًا تقيم فيه ما دامت الظروف مريحة، وليس محطة انتظار حتى تأتيك فرصة أفضل. الأردن بيتك الذي لا يُباع، وشرفك الذي لا يُساوم عليه، واسمك الذي لا يمكن لأحد أن ينتزعه منك. هو تلك الأرض التي إن عطشت، ارتوت بعرق الفلاحين، وإن جاعت، أشبعتها سواعد الرجال، وإن هدّها التعب، وجدت على ضفافها أمهاتٍ يرفعن الأكف بالدعاء، ووجدت فوق جبالها رجالًا يشدّون الحزام ويقولون: “نحنا هون”.
أن تكون أردنيًا يعني أن تأكل من خيراتها، أن تعرف أن البعيثران كان دواءنا، والشومر غذاءنا، والزعتر زادنا، والميرمية شفاءنا، وأن اللبن المخيض لم يكن مشروبًا عابرًا بل طقسًا مقدسًا في مجالسنا. أن تكون أردنيًا يعني أنك رويت عطشك من عيون الماء في وادي السير، وتذوقت الرشوف الساخنة في برد الشتاء القارس، وقطفت الخبيزة من سفوح عجلون، وأكلت المنسف تحت شجرة زيتون عمرها مئات السنين، وربطتك بعمان ألف حكاية منذ أن كان سقف الباص الأحمر مظلة المسافرين، وحاراتها تستقبل الجميع بنفس الود والترحاب.
أن تكون أردنيًا يعني أنك مشيت في شوارع مادبا حيث الفسيفساء تروي قصصًا أقدم من الزمان، وأنك جلست على تلال المفرق حيث الصحراء تعانق السماء، وأنك لمست التاريخ في العقبة، حيث البحر يحمل حكايات السفن القادمة والمغادرة، حيث الموج يعيد أصداء الماضي، ويكتب مستقبل الوطن. أن تكون أردنيًا يعني أن تعرف قراك قبل أن تحفظ أسماء العواصم، أن تكون قد مشيت في دروب وادي رم قبل أن تجرب شوارع المدن الكبرى، أن تكون قد شربت من نبع العرايش في الحلابات، وسهرت في صيف جرش، وقطفت التين من جبال عجلون.
أن تكون أردنيًا يعني أن تحرس الحدود بقلبك قبل سلاحك، أن تحمي الوعد قبل الأرض، أن تصون الشرف قبل الكرامة، أن تُبقي رأسك مرفوعًا كأنك أحد أبراج قلعة الكرك، وأن تظل صلبًا كثبات أم قيس فوق الجبال، وأصيلًا كقوافل البدو التي عبرت صحراء الأزرق، وعميقًا كمغارة برقش التي تروي آلاف السنين من الصبر والحكمة.
ولأن القائد هو الأقرب إلى شعبه، وهو الأعرف بهم، قالها جلالة الملك عبدالله الثاني بصدق وإيمان خلال لقائه بالمتقاعدين العسكريين والمحاربين القدامى: “شعبنا الوفي”. وهذه ليست مجاملة، وليست عبارة بروتوكولية، بل حقيقة يعرفها كل من حمل في قلبه حب هذا الوطن. الأردني لا يُشترى، لا يُؤجر، لا يُؤثر عليه الإعلام المأجور، ولا تهزه الفتن. الأردني ينام وصوت الريح في البادية موسيقى، وصوت المآذن في الصباح وطن، وصهيل الخيل في المعركة نشيدٌ خالد.
لذلك، لا تسألوا بعد اليوم ماذا قدم لكم الأردن، بل اسألوا؟ ماذا قدمتم له؟. لا تنتظروا من يصفق لكم، بل كونوا أنتم من يبني، من يحمي، من يحمل الراية بلا شروط. لا تقولوا “الأردن أولًا”، بل قولوا “الأردن العظيم أولًا وأخيرًا”، فهو ليس محطة عابرة، ولا ورقة مساومة، ولا خيارًا ثانيًا. هو الأصل، هو الجذر، هو الثابت، هو الذي كان وسيبقى… وإن لم تكن كذلك، فابحث لك عن وطنٍ آخر!