رمزي الغزوي
جاء في الخرافة أن ذكر النعامة لم يكن مستاء من كونه يملك أذنين صغيرتين فحسب. بل كان استياؤه الأشد لأنه لا يملك قروناً يناطح بها؛ ولهذا هام في البراري يبحث عن قرنين يركبهما على رأسه الصغير، لكنه رجع وقد خسر معظم أذنيه، ولهذا يسمى ذكر النعامة بالظليم، زيادة على أنه بقي أصمعياً (أي صغير الأذن).
وتجاوزاً عن الخطل والصمع، أي عن كبر الأذن وصغرها، فإن الأصمعي كان أديباً ذائع الصيت له عقل راجح، ونفس طويل، وقريحة سديدة. وكان ناقداً لاذعاً، لا يعجبه العجب، ولا صيام رجب، ولا تأخذه في الحق لومة لائم أو بطشة باطش.
ذات مرة جاءه أحد مدعي الشعر، وهم كثر في كلِّ زمان ومكان، جاءه طالباً منه أن يستمع إلى قصيدته؛ فقال له هاتِ ما عندك. وأصحابه من حوله يشنفون آذانهم ويترقبون سيل الشعر.
انطلق الرجل مبحراً بقصيدته الحلمنتيشية، التي كركبت الدنيا، وقلبت موازين الشعر من ساسها لرأسها، وتلاطمت بحوره. فقد كانت بلا جمال ولا مقال ولا معنى أو مبنى، وبينما هو منهمك في الإلقاء مزبداً وملوحاً بيديه يتفطر عرقاً كان الأصمعي أيها الأصدقاء يهزُّ برأسه قائلاً: أحسنت، أحسنت، استمر، تابع، استمر يا رجل. تابع بسرعة. فيما أصحابه يتعجبون كيف أعجبته هذه القصيدة التي لا تشبه إلا خرقة شربت كثيراً من ماء آسن حتى ثملت.
وبعد أن انصرف المتشاعر تبسم الأصمعي قائلاً بمرارة وحرقة: لا تعجبوا من أمري يا اصدقائي، فوالله لو بقي هذا الكلام في جوف الرجل لقتله، إنه سمٌّ زعاف، وأردت أن أخلصه منه، ليس استحساناً به، بل رأفةً بهذه الحياة.
وربما هذا الذي يحدو الناس في هذه الأيام إلى التصفيق والإعجاب بالرداءات السائدة التي تتواكب علينا من جهاتنا الخمسة. ربما هم يصفقون لها ليس استحساناً وإجازة لها، وإنما من باب الرأفة بالحياة، فلو بقيت تلكم السموم، في صدور أصحابها؛ لقتلتهم.
لكن إلى متى نبقى نتعامل مع هذه السموم المبثوثة، والرداءات الطاغية، طبقاً لنظرية الأصمعي. والله تعبنا!.