حمدة الزعبي
كثيرًا ما لفتت أنظار الناس إليها، كونها لا تضع غطاءً على رأسها رغم أنها تعايش الشيخوخة، والشعر الأبيض الثلجي بدأ يغزو مفرق رأسها، ويشي بسني عمرها الستيني، فيما كنَّ بناتها يرتدين الحجاب ويتحدثن معها وينادينها بـ “أمي” خلال مرافقتها لهن عشية فترة الأعياد، لتبتاع لهن ما يتيسر من لباس.
كانت تزدحم نوفوتيهات الملابس، في هذه الأثناء والأجواء بالناس، والكل من أمهات وبنات ينتشرنَ في ذات المهمة في الأسواق استعدادًا للعيد.
مشهد تكرر كثيرًا لدى الأم، ولم يتوقف على أجواء القرية، أو الريف، بل تكرر أيضا حتى في العاصمة عمان، سألتهن إحدى السيدات في أحد المولات باندهاش:” أهذه أمكنّ؟!”، أجبنها: نعم.. ولم السؤال؟! أجابت: لأنكنَّ محجبات وهي “مفرعة” – بلا غطاء رأس-!.
لم يتوقف الاستفسار والتعبير عن الاندهاش ، بل كثيرًا ما وجِه السؤال للأم مباشرة من باب الفضول..” أنتِ أمهنَّ؟ وهنَّ بناتك؟” . ترد الأم: نعم. ثم يتابعن السؤال وعلامات الدهشة والتعجب تغزو ملامحن: “طيب، كيف أنت غير محجبة وهنَّ محجبات؟!” فتبادر الأم تجيب:” مجرد ديمقراطية” كل واحد حر بنفسه، هذه حرية شخصية..هن لبسنَ الحجاب ” وأنا إن شاء الله ربي يهديني وأرتديه ذات يوم.
وتبدأ الأم بعصفها الذهني مع ذاتها باستحضار ذكريات بناتها في الجامعة وبعد انتهائهن من الجامعة وارتداء الحجاب، كيف أنهن أوشكن على الانتهاء من الدراسة الجامعية وهن بلا حجاب. وتذكرت كيف كان الأمر لهن في البداية صعبًا ثم اعتدنا عليه وبات بعد ذلك جزءً حميمًا من شخصياتهن وسلوكهن.
تذكرت الأم ابنتها الكبيرة وقرارها بارتداء الحجاب في سنتها الدراسية الرابعة، كانت تقف أمام المرآة وتعيد لفَّ الحجاب لمراتٍ، خاصة بداية زيها الجديد، عندما اشترى لها والدها شالين وربما ثلاثة، لكن كانت مشكلة تنسيق اللباس مع لون القميص والبنطال تؤرقها، وتصل بها أحيانًا حد البكاء والعويل، فضلًا عن أنها لا تملك الخبرة في هذا المجال.
أما الابنة الثانية فقد التزمت به بعد مشورة خطيبها وعقد قرانه عليها، فقد كانت وقتها موظفة بنك، واستطاعت فيما بعد التعود عليه والاقتناع به.
وبالنسبة للثالثة فقد ارتدته بعد تخرجها من الجامعة والطلب إليها من خطيبها بارتدائه.
أما أصغرهن، ابنة الثانية عشر ربيعًا، كانت حينها في الصف السادس الابتدائي، بدأت تجرّب ارتداء الشال مثل زميلاتها وصديقاتها في المدرسة، وكانت كلما تشاور أمها في هذا الموضوع، تجيبها بأن تتريث لحين تخرجها من الجامعة مثل شقيقاتها، أرادت لها الأم أن تلبسه عن قناعةٍ لا تقليدٍ لزميلاتها.
استشارت الابنة شقيقاتها بهذا الأمر فأجبنها برأيٍ واحدٍ:” ارتديه الآن أفضل لك من أن يأتي زوج المستقبل ويجبرك على ارتدائه .. وحينها سيكون عليك صعبًا وتحتاجين لفترة للتعود عليه”.. فاستمعت لنصيحتهن
والتزمت به.
ركبت الأم عجلة الزمان، وعادت بأفكارها إلى الوراء‘ عام تخرجها من الجامعة وعودتها إلى وطنها ،1980 عندما جاء العريس لخطبتها، تذكرت حالها وتلك اللحظات، كيف أنها اشترطت على زوجها قبل عقد قرانها بعدم ارتداء الحجاب وأنها لن ترتديه إلا عن رغبة وقناعة منها فقط.
كثيرًا ما كانت الأم تجلس وتحدث نفسها وتهمسُ متسائلةً: “وهل الانسان يقيّم بشكله وظاهره وزيه؟ أم أنه يقيّم بجوهره وقيمهِ وأخلاقه وسلوكه؟! وهل الملابس تحدد أنه إنسان صادق وعاقل وورع وتقي ونزيه..أم أن علاقاته وتواصله مع محيطه وخدماته لمجتمعه وللانسانية جمعاء، وحبه لعمله واتقانه له، ما ينبئ عمّا يكنّه في داخله؟!
ثمة آراء تباينت، وضجَّ بها الإعلام حتى في دول أوروبا الغربية والعالم كله، إشكالية ارتداء الحجاب أو عدمه.. السماح به داخل المدارس والجامعات أم لا .. وفي تحديد الرأي حول هذه المسألة والتي حسب اعتقادي تندرج في باب الحرية الشخصية وديمقراطية التصرف والاقتناع.. وبالرغم من دعوة تلك الدول لحرية الرأي وحرية المرأة وحرية المعتقد والتعبير ، وتسويق ذلك عبر لائحة حقوق الانسان ومطالبة الآخرين الاقتداء بهم وبثقافاتهم. إلا أنهم هنا وفي هذه القضية التي أصبحت شاقة، تباينوا واختلفوا ولم يجتمعوا على تطبيق الرأي السليم بترك الخيار للمرأة بحرية ارتداء الزي الذي تهواه وتريده وتقتنع به.