سعيد الصالحي
تلقيت العديد من الاتصالات من الأصدقاء لمعرفة تفاصيل قضية البسطة التي تحدثت عنها في مناسبتين سابقتين، وطالبوني أن أكمل القصة وأن أتمها وألا أترك النهاية مفتوحة، وهذا ما سأفعله في هذا المقام، حيث أننا كنا قد تركنا البسطة وقد امتدت وتوسعت وزاد عدد العاملين عليها، وكذلك زاد من طرفنا أعداد ابناء السبيل، وكان العاملون على البسطة لا يشعرون بالأمان وخصوصا الرجل الأول الذي اغتصب بسطة السعادة، وعلى الرغم من أن السنين قد مارست مهاراتها عليه وازداد في العمر لكنه لم ينعم بأي مظهر من مظاهر الوقار والحكمة، بل كان دائما أرعنا ومتحفزا للمشاجرات والمشاحنات والكذب وتزييف الحقائق وتحويل كل أمر ليصب في مصلحته، وكذلك لم تحقق له عائدات التجارة من البسطة أي إحساس بالأمن أو الأطمئنان أو السعادة، هذه السعادة التي كانت ذات يوم فراغا على بسطتي المغتصبة ولكن رائحتها كانت تطغى على رائحة السيل في يوم صيفي.
صباح أحد الأيام بدأت الوفود تطرق باب بيتي في محاولة منها لايجاد حل ما لقضيتي ينصنفني ويشعر رجل البسطة بالأمان، ولعله يعيد لي بعضا من حقوقي في البسطة مع اعتراف الجيران الكامل والعلني بجزء من حقي التاريخي فيها، وبدأ الجيران يروحون ويغدون بين بيتي البسيط وبسطته الفارهة، بعضهم كان يحمل لي شروطا علي الرضوخ لها لأنني الحلقة الأضعف، وبعضهم كان يحمل الأحلام والوعود ولكن أحدا منهم لم يحمل الحقيقة، ظلت الوفود تعمل في الصيف والشتاء وحتى في أيام العطل الرسمية، وما زلت أذكر إجتماعي التاريخي بأحد الوفود عشية عيد “المزراب” حينما قال لي: هذه فرصتك يا فطن، خذ وطالب يا أخي، وأحمد ربك في الغداة والعشي أنه قد وافق على الاعتراف بك.
بعد سنوات من المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، وافقت على العودة إلى مساحة محددة من البسطة وكانت المساحة تبدأ من طرف البسطة المطلة على شارع الرضا، وكان نصيبي من بسطته الفارهة وبسطتي التاريخية حوالي شبر مربع، وأنا كنت ذكيا بأن طالبت أن يقاس الشبر بواسطة كف جارنا أبو كفاح المناضل الذي شارك من خلال المذياع بكل معاركنا في القرن الماضي، اخترته لأتبارك به وباسمه وكذلك لأن كفه أكبر من كفي بعدة سنتيمترات وكان هذا شرطي الذي تمسكت به وأصريت عليه، حتى بات كف أبا كفاح هو المقياس الرسمي للمساحة التي سأفرد سلطتي عليها، وأمام اصراري وافق رجل البسطة والوسطاء ورفعت علم سعادتي على شبر من بسطتي التاريخية، وكان هناك شرط صغير لرجل البسطة هو ألا أبيع السعادة على المساحة المخصصة لي، ولذلك قررت أن أبيع الصبر صيفا وأن أبيع الفقع في الشتاء، وتم توقيع الاتفاقية في حفل بهيج على رصيف فندق حيفا، وعرف الناس الاتفاقية باسم “صبرنا ونلنا”.
رحب الجيران بعودتي إلى البسطة وأقبلوا على شراء منتجاتي من باب جبر الخواطر، وكلما مرت الأيام كان الجبر يتناقص تدريجيا، وخاطري يتسمم، ولم تعد حالة السكون بين النقيضين على البسطة حالة جديدة، بل صارت هي الأساس وصارت مشاحناتنا أمرا مستهجنا كلما حاولت إبعاد صندوق البرتقال الخاص به عن الشبر الذي أمتلكه، وأسمع أصوات الجيران والمارة يقولون: طول بالك يا سيدي الجار للجار، بعد قليل سيرفع الصندوق، وأنت بضاعتك قليلة تستطيع عرضها فيما تبقى من شبرك، تحمل يا سيدي، شبر الضيق يتسع لألف صديق.
وهكذا كانت تمر الأيام وأنا أقف كالغريب في بسطتي، وكنت أموت حسرة وقهرا وأنا أجول ببصري في باقي أرجاء البسطة الرحيبة، التي صنعتها بيدي ذات يوم، وكنت كاد أنفجر عندما أعود إلى شبر البسطة الذي لا يتسع لأربع حبات من الصبر أو الفقع، وكان رجل البسطة الخبيث يتعمد أن يبادلني الابتسامات والتحيات أمام المارة حتى يشعرهم بإنسانيته والتزامه تجاه المارة والجيران باتفاقية “صبرنا ونلنا” التي كان يحتفل بها كل سنة.
وفي يوم من الأيام وبعد أن شعرت ببعض الجوع مددت يدي إلى بسطته وتناولت قطفا من العنب دون استئذان أحد، وبدأت ألتهم حبات العنب بشراهة، فهرول نحوي رجل البسطة وحاول استعادة القطف وحاول التهجم علي بالأيدي والكلام كالأيام الخوالي، فما كان مني إلا أن وضعت القطف جانبا وأنهلت عليه ضربا، كنت أضرب به بكل قوة وسعادة حتى ملأ صراخه الشارع، ذهل عماله ومنعتهم المفاجأة من التدخل، وهب كل من في الشارع لنجدته وابعاده عني، وقفت في شبر بسطتي سعيدا بانتفاضتي وأمسكت قطف العنب لألتهمه وأسكت جوع معدتي بعدما سددت بعضا من وجع روحي.