الباحث محمود شريدة
من التاريخ المنسي / 1( المرحوم الحاج فاضل عبيدا لله فاضل الخطاطبة)
بقلم الباحث محمود حسين الشريدة
من رحم الشهامة والنخوة تخرج القامات العالية … برز من كفرنجة رجال كبار كان لهم دور بارز كل واحد منهم في زمانهم ومكانهم ، تركوا بصمات لا تمحى بتاريخ الأردن ، كان لهم تأثير كبير في حياة الناس ، على الرغم من رحيلهم إلا أن الناس لازالوا يثنون عليهم ويذكرونهم بالخير…
نسلط الضوء اليوم على شخصية عجلونية (كفرنجاوية ) … امتاز بالتقوى ورجاحة العقل ، مثقفا ومتعلما ، طويل القامة ، قليل الكلام ، لكنه ذو هيبة ووقار، نال حظا من التعليم في زمان ومكان سادته الأمية ، حفظ من كتاب الله الكريم الشئ الكثير ، عُرف بين الناس بالتقوى والورع والصدق والمحبة وإصلاح ذات البين ، محافظا على القيم الحميدة بتعامله مع الناس وداعيا إليها ، متواضع لا يطلب شهرة ولا يسعى إليها …
إنه المرحوم الحاج فاضل عبيدا لله فاضل الخطاطبة
ولد في بلدة كفرنجة عام 1878م ، والده عبيدا لله الفاضل الخطاطبة ، ووالدته عاقلة الصمادي من النعيمة ، يمتاز هذا البيت من الخطاطبة بكثرة اعقابة ، حيث أن الجد فاضل أنجب سبعة ذكور كلهم أورثوا أبناء وأحفاد ، وكان عبيدا لله أكبرهم وأكثرهم تعلما ، الأمر الذي اثر على إرادة ولده فاضل في الإقبال على التعلم في ذلك الزمن الذي نادرا ما تجد متعلما واحدا من العشيرة أو القرية ، أما إخوة عبيدا لله هم : ابراهيم وبرهم وسعيد ومحبوب وزياد وزيادة
نشأته :
نشأ المرحوم الحاج فاضل في كفرنجة ودرج على ترابها مع اقرأنه في ذاك الزمن ، ونظرا لان والدة عبيدا لله كان متعلما دفع ابنه إلى الكُتاب في كفرنجة لينال حظه من التعليم وتعلم القراة والكتابة والحساب والقران الكريم, وكان لتدين والده ومجالسته للعلماء الأثر الكبير في تفقهه في الدين وحفظ القرأن .
حضي باحترام أهل كفرنجة نتيجة لأمانته وتدينه ولمبادراته بإعمال الخير وإصلاح ذات البين منذ شبابه ، وكانت مسبحته المصنوعة من اليسر (كما يذكر الدكتور احمد عناب مثل كرت البنك حين يرسلها مع أي شخص إلى أي دكان أو جهة ليحصل على مبتغاة).
حياته الخاصة :
منذ بواكير سني عمرة التحق المرحوم بالكُتاب في بلدة كفرنجة ، ونظرا لان كفرنجة كانت مركز زعامة جبل عجلون منذ أكثر من قرن قبل مجئ الحاج فاضل الخطاطبة للحياة ، لم تنقطع منها الكتاتيب ، وفي عهد إمارة شرق الأردن تأسست أول مدرسة أميرية في جبل عجلون كانت في كفرنجة ، لذا التحق الحاج فاضل في الكُتاب ودرس على يدي شيخ المسجد القراءة والكتابة والحساب والقران الكريم ، وبفطرته كان متدينا حفظ عدد كبير من سورة ، وبعد الكُتاب مارس حياته الطبيعية مع والدية ، حيث كانت اهتماماتهم تنصب في أمور محددة مثل الزراعة وتربية المواشي وعلاقاتهم الاجتماعية ، شارك مع والدية في أعمالهم الاعتيادية وكطبيعة الشباب الطامحين بتأسيس بيت وأسرة تزوج من الحاجة فظيه العيسى الخطاطبة ، وانجب اربعة ابناء هم عبدالله ، محمد ، امين ، عبده ، وإبنتين هما أمنه وامينه
منذ شبابه ومجالسته لوالدة واقاربة كان لديه الحماسة في الانشغال في إصلاح ذات البين ونظرا للصفات الطيبة التي كان يتحلى بها رحمة الله اُعتبر حكما مقبولا من جميع الإطراف ، وكان للنتائج الطيبة التي كانت تحصل في حل الخلافات بين الناس زادت ثقة الناس به واحترموه أكثر وساعدوه على ذلك ، حيث لجاء إلية كثير من الناس من داخل كفرنجة أو من خارجها ، للتدخل في حل الخلافات التي كانت تنشأ لديهم ، نتيجة لحكمته وخبرته الواسعة ونواياه الحسنة وحياديته التي كان يمارسها في حل الخلافات ، والتي كان جلها يتعلق بحدود الأرض والخلافات الشخصية والأسرية وفي بعض الحالات تتعلق بقضايا الدم والشرف .
ونتيجة لهذا النشاط الاجتماعي الهام لابد من توفير بيت ومضافة مناسبة لاستقبال الضيوف وذوى الحاجات من الناس ، كان بيته كما يصفه حفيدة د محمد فاضل أمين: عبارة عن بيت واسع مبني من الحجر( الدبش) والطين ذو ثلاثة قناطر حجرية ، مسقوف بسيقان الأخشاب التي كانت تجلب له من وادي الزغدية أو من منطقة الزور على ضفاف نهر الأردن الشرقية ، وفوقها طبقة من اغصان الأشجار ونبات البلان تعلوها طبقة سميكة من التراب والطين
تقع مضافته في الجهة الشرقية من بيته ويتم الوصول إليه من خلال درج ، ويفتح بابها إلى جهة الشرق على ساحة سماوية ، يحيط بها المطبخ والخان والحمام والطابون وتنتهي الساحة ببوابة واسعة مصممه على الطراز الشامي التي كانت تمتاز به أبواب بيوت الشيوخ والوجهاء في ذلك الزمان .
حياته العامة
كما هي سيرة حيات الكبار ، التف حوله اقاربة من عشيرة الخطاطبة وساعدوه على عمل الخير في نفس الوقت وثق به أبناء كفرنجة والمناطق المجاورة وأصبح مرجعا في إصلاح ذات البين ، ولجهودة المخلصة كان يخرج بحلول مناسبة لكل خلاف يسعى لحلة ، لا يرجو من وراء ذلك أجرا من احد أو شهره بين الناس ، وإنما كان همة العمل لوجهه تعالى ، هدفه إحقاق الحق والوقوف في وجه الباطل ، ولم يكن إصلاح ذات البين هو الهدف الريس له ولكنه كان مشعلا في نشر الفضيلة وتنوير الناس بالحلال والحرام ، في زمانا كان الناس فيه يتمادون بإعمال السلب والنهب ، وكانت السرقات من الإعمال المستحبة عندهم ، والتي كانت معيارا للرجولة والشجاعة.
تحمل المرحوم المسؤولية مبكرا فبعد وفات والدة عبيدا لله واستشهاد شقيقة الأكبر محمد في الحرب العالمية الأولى ، ضم أبناء الشهيد تحت رعايته ، يعاملهم بحب وحنان كابنائة إلى أن كبروا وتزوجوا ، أما عن بيته ومضافته ، يحدثنا حفيدة الدكتور محمد فاضل: كان منزل المرحوم ومضافته مجمعا للناس وخاصة الشيوخ والعلماء والقادمين إلى كفرنجة حيث يقدم لهم الضيافة والإقامة لفترة طويلة ، ومن محبته لدينه واخلاصة في ذلك ، كان سعيه مع مجموعة طيبة من أبناء كفرنجة منهم الحاج عبده شعبان والحاج هزيم الهزايمة والحاج احمد المزيد العنانبة والحاج حامد العنانبة وجمع كبير من رجالات كفرنجة. لبناء المسجد الكبير عام 1902م, ففي المسجد يجتمع علماء الدين والخطباء يقدموا الفتاوى والدروس والمواعظ وخطبة الجمعة للناس ، في حين كان يستضيفهم في بيته لمدد طويلة ، وبالتالي يستميل بعضهم للبقاء إماما للمسجد مثل الشيخ الازهري يوسف الطنطاوي الذي بقي إماما للمسجد حتى توفي عام 1928م ، وقبره موجود في مقبرة كفرنجة .
ومن أصدقائه المقربين الشيخ سعد الخطيب والحاج عبده شعبان والحاج محمود سالم العنانبة (الترك) والد الدكتور احمد عناب.
كان الحاج فاضل مرجعا كبيرا من مراجع إصلاح ذات البين مدعوما بالتفاف اقاربة من عشيرة الخطاطبة ووجهاء كفرنجة وكان باستطاعته وبخبراته المتراكمة يقدم على إجراء صلحات عشائرية كبرى بين عشائر من خارج كفرنجة ، ونتحدث بشئ من التفصيل عن ثلاثة نماذج من الصلحات التي قامت بها عشيرة الخطاطبة وبدعم بعض عشائر كفرنجة ، وكان للحاج فاضل دورا رئيسيا بها كما حدثنا عنها المهندس حسن الخطاطبة مما سمعه من والدة وأقاربه وغيرهم
أولا: الصلح العشائري بين عشيرة الشريدة برئاسة كليب الشريدة وعشيرة الغزاوي برئاسة بشير الغزاوي عام 1920م على اثر مقتل شخص من عشيرة الشريدة من قبل رجل من عشيرة الغزاوي ، حيث قاد الصلح عشيرة الخطاطبة برئاسة الحاج فاضل في منطقة الخلة (رأس السوق) وسط كفرنجة, ويذكر انه لما رأى الحاج فاضل عدد الفرسان الكبير من عشيرة الشريده خشي أن تطغى قوتهم ويعتدوا على رجال الغزاوي الذين هم في جيرة الخطاطبة وأهل كفرنجة ، وقبل إجراء الصلح طلب الحاج فاضل من القوة الأمنية التابعة لحكومة كفرنجة المحلية المسلحة بالبنادق (الموزر) ، باستعراض للقوة إمام الحضور من وجهاء عشائر المنطقة وإطلاق النار في الهواء ، ليشعر فرسان الشريدة بان في كفرنجة قوة منظمه وجاهزة للرد القوي في أي لحظه ، بعدها تم مراسيم الصلح بسلام .
ثانيا : الصلح بين عشيرة الشويات وعشائر عنجرة في عام 1922م على اثر مقتل احد أبناء عشيرة الشويات في الأطراف الغربية لبلدة عنجرة ، واتهام أهل عنجرة بمقتله وقد تم الصلح في كفرنجة في نفس المكان في ( رأس السوق ) و بحضور الشريف عقاب بن عبدالله (الذي كان ضيفا عند الحاج فاضل الخطاطبة) ، وجمع كبير من وجهاء المنطقة وتزعم الصلح عن عشيرة الشويات صالح العساف الشويات وعن أهل عنجرة خليل احمد النواصرة الزغول وكان الحاج فاضل الخطاطبة رئيسا للجاهه وكيل الوفاء.
ثالثا : الصلح العشائري بين عشيرة الخطاطبة وأهل كفرنجة من جهه وبين عشائر عباد من جهة اخرى ، وذلك في العشرينيات من القرن العشرين ، حيث يروي هذه الواقعة الشيخ حسين الشهاب الياصجين للمهندس حسن الخطاطبة عام 1996م ، انه عند حضور الوجهاء من كفرنجة و مختلف المناطق إلى بلدة معدي في الغور الأوسط لإجراء الصلح واستقبالهم من قبل شيوخ ووجهاء وأبناء عباد على رأسهم الشيخ شهاب الياصجين والشيخ سعد الخلف والشيخ عليان المفلح العلاوين والشيخ حمدان المصالحة والشيخ حمد عبدالكريم الفاعور والشيخ عبد الكريم ذياب الربيع ، وعند السؤال عن الحاج فاضل قيل لهم انه مطلوب في هذه القضية ولم يحضر ، عندها أصر الشيخ سعد الخليف وشيوخ عباد على حضوره, ولما لم يكن بالإمكان حضوره بنفس اليوم ، تم تأجيل الصلح لموعد قريب ليكون الحاج فاضل هو المتحدث باسم عشائر كفرنجة تقديرا منهم لمكانته ، وتم ذلك .
الحكومة الفاضلية
لما لهذه الشخصية الكبيرة من محبة واحترام وتقدير وثقة بين الناس في داخل كفرنجة وخارجها لا نستغرب إجماع وجهاء كفرنجة علية ليكون رئيس الحكومة المحلية ، التي تشكلت بعد انسحاب القوات العثمانية من فلسطين والأردن واضطراب الأمن في منطقة جبل عجلون ، حيث أجتمع في بداية عام 1919م وجهاء كفرنجة خاصة أبناء عشيرة الخطاطبة وعشيرة الشويات وكان منهم الحاج فاضل الخطاطبة, والمختار محمد أبو عناب، ورشيد إسماعيل الخطاطبة، وعبد القادر ناصر الشويات، وسلامه هزاع الخطاطبة، والحاج هزيم الهزايمة، وعدد اخر من وجهاء كفرنجة ، في مضافة المختار محمد أبو عناب، ليتدارسوا ما آلت له الضروف بعد أن انسحبت القوات العثمانية واضطراب الأمن في كل مكان ، وحرصا منهم على استتباب الأمن في كفرنجة والمحافظة على حيات وممتلكات أهل كفرنجة ، اتفقوا على تأسيس كيانا أسموه حكومة كفرنجة ، وبعض الأحيان يطلق عليه (الحكومة الفاضلية) ، كان الهدف منها حفظ الأمن في كفرنجة للحفاظ على حيات وممتلكات الناس ، نظرا لمكانته الدينية والعلمية والمكانة الاجتماعية العالية التي كان يتمتع بها الحاج فاضل الخطاطبة تم اختياره رئيسا لهذه الحكومة ، تعاهد المؤسسون على أن لا يظلم احد في كفرنجة, وان يطبق فيها حكم الشرع الإسلامي, كما اتفقوا على عقوبات مشددة ، لحد السرقة بحيث يدفع السارق أربعة أضعاف قيمة المسروق ، فمن يسرق عنزة مثلا يدفع أربع عنزات بدلا منها .
سارعت هذه الحكومة إلى تشكيل قوة أمنية تقدر بخمسين شخص مسلحين ببنادق من مخلفات الجيش التركي ، مهمتها حفظ الأمن في كفرنجة, استمرت هذه الحكومة المحلية حتى عام 1922 الى بعد مجيء سمو الأمير عبد الله بن الحسين طيب الله ثراه إلى الأردن ، وتشكيل الإمارة ، عندما أرسل الأمير عبدالله مبعوثه الشريف عقاب بن عبدالله إلى كفرنجة واستقبله الحاج فاضل وأعضاء الحكومة بحفاوة في مقر الحكومة ثم استضيف في مضارب عشيرة الخطاطبة في بيوت الشعر لمدة يومين, قدم فيها الشريف دعوة للحاج فاضل وأعضاء الحكومة المحلية لزيارة الأمير في مقره في عمان ، ونتيجة لترددهم في استجابة الدعوة ، وبعد نحو شهر تم إرسال قوة من الدرك والجيش البريطاني برئاسة بك باشا وتم اعتقال الحاج فاضل وعضوين من الحكومة المحلية هما : رشيد اسماعيل وسلامة الهزاع وإيداعهم السجن بعد أن وجهت لهم تهمة قتل شخص من كفرنجة عام 1919م ، والذي تم محاكمته بالإعدام لقتله شخصين عمدا ، مكثوا ثلاثتهم في السجن لمدة 6 شهور ، إلى أن اقتنعت المحكمة بحجتهم وخرجوا بالبراءة .
عاد الحاج فاضل إلى كفرنجة يمارس دوره الاجتماعي في حل النزاعات العشائرية وإصلاح ذات البين في كفرنجة وخارجها ونظرا لثقة الناس به عهد إليه بالوصاية على بعض من توفي والدهم من أقربائه من فخذ أخر من الخطاطبة ، حسب حفيدة الدكتور محمد ، مدعما قولة في وثيقة قديمة من محكمة عجلون الشرعية .
خريف العمر
دأب الحاج فاضل على الذهاب إلى الحج رغم صعوبة السفر آنذاك ، فحج عدة مرات على الجمال وكان رفقائه في تلك الرحلات من الأقارب والأصدقاء من أهل الورع والتقوى منهم الحاج احمد المزيد أبو عناب والحاج موسى الحمود الزغول .
كانت أخر حجة له علية رحمة الله في عام 1935م ، كما يرويها ولده الحاج عبده فاضل الخطاطبة ، مصطحبا معه زوجته الحاجة فضية العيسى الخطاطبة ومجموعة من أبناء كفرنجة ، عن طريق البحر حيث أبحرت بهم الباخرة من العقبة الى جدة ،ومنها الى مكه المكرمة ، وبعد الانتهاء من مراسم الحج ، أعاد زوجته مع عائلات كفرنجة وبقي هناك مجاورا لقبر الرسول في المدينة المنورة حوالي السنتين ، وكان عازما على البقاء ليموت هناك ويدفن في البقيع ، ونتيجة لمرضه ونصيحة أصدقائه ، قرر العودة بحرا إلى العقبة ، ثم بالسيارة إلى جرش حيث استضافة احد أصدقائه القدامى وهو الشيخ محمد القندول الصمادي عدة أيام. حتى علم أبناءه وأقرباءه بوصوله إلي جرش ، خرجوا مع عدد من أصحابه من وجهاء ورجال كفرنجة إلى جرش لاستقباله واصطحابه إلى بيته في كفرنجة ، مكث في بيته بعض الوقت وهو يعاني المرض ، ثم خرج مع أسرته ليقيم في بيت الشعر في وادي كفرنجة ، وبعد إقامته مده من الوقت اشتد به المرض فطلب من أبناءه إعادته إلى مضافته في كفرنجة ليودع الأهل والأصدقاء وبعد حياة حافلة بالعطاء الخير انتقل إلى رحمه الله ، وبذلك انطوت صفحة مشرقة لشخصية فذة كانت تفيض بحب الخير والامر المعروف ومحبة الناس ….
الخلاصة :
برحيل الحاج فاضل عبيدالله الخطاطبة فقدت كفرنجة وجبل عجلون احد ابرز الشخصيات الاجتماعية التي أفنت عمرها القصير في إصلاح ذات البين ونشر الفضيلة بين الناس واحد أشهر الشخصيات في زمانه المراعية لحدود الله والساعية في عملها لمرضاته تعالى …
رحمك الله الحاج أبو عبدالله رحمة واسعة وأدخلك المولى فسيح جناته …