
ابراهيم غرايبة
*قيم متغيرة ودور جديدة للدول والمدينة
تردّ الأمم اليوم جميع مؤسساتها وسياساتها إلى السؤال المنشئ لها، بمعنى هل بقيت مجدية؟ وهل يجب الاستمرار أو عدم الاستمرار بها، ففي ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى تنتقل الموارد والأعمال ومن ثم تنظيمها وإداراتها إلى مرحلة ومتطلبات مختلفة عن تلك التي أنشأت ما لدينا من موارد ومؤسسات وقيم وتشريعات، فالدولة الحديثة المركزية نشأت في ظل معطيات لم تعد موجودة، ومن ثم فإن الدولة التي تنظم وتدير شؤون الناس على نحو دقيق ومركزي لم تعد قادرة على الاستمرار، وقد بدأت المرحلة الأولى من تغيير دور الدولة حين أسند إلى القطاع الخاص مجموعة من المؤسسات والخدمات، ويتجه العالم اليوم إلى إسناد مجموعة أخرى من الأدوار إلى المجتمعات والمدن، ويصعد الأفراد أيضا شركاء مستقلين بأنفسهم وليس ضمن جماعات ونقابات ومؤسسات وسيطة بين الأفراد والسلطة، وتحلّ الثقافة كإطار منظم للمجال العام بدلا من التنظيم الاجتماعي والأخلاقي الذي تولته المؤسسات والمجتمعات على مدى القرون الماضية.
وفي هذا السياق يمكن أن نفكر جميعا بإعادة النظر في التنظيم المؤسسي للموارد والأعمال، وملاحظة ما يمكن الاستغناء عنه، وما يمكن دمجه بغيره، وما يمكن إسناده إلى المجتمعات والأفراد بدلا من السلطة السياسية، .. وأخيرا ما يجب إنشاؤه من مؤسسات وقيم جديدة لتنظيم الحياة والسلوك والموارد والأعمال.
وعلى سبيل المثال يجري إسناد الشأن الديني والثقافي والرياضي إلى البلديات والمجتمعات والمنظمات الاجتماعية، وتنسحب الدول من إدارة وتنظيم هذه المجالات، وتكتفي بالدعم والتنسيق وتطبيق القوانين الناظمة للمؤسسات والأعمال، وينتقل الحكم المحلي إلى المدن والبلديات ليدير الناس بأنفسهم مجموعة من الموارد والأولويات الأساسية في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والأمن، لكن في الوقت نفسه تتطور وزارة الشؤون الاجتماعية لتكون وزارة سيادية كبرى مثل وزارتي التعليم والصحة، لأجل إدارة وتنسيق وضمان خدمات وإنجازات أساسية، ذلك أن الموارد الكبرى والأعمال صارت تعتمد أساسا على تعليم جيد وكفؤ، ورعاية صحية واجتماعية متقدمة، وفي ذلك تركز السلطات السياسية جهودها ومواردها وأعمالها في الارتقاء بالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية.
وتتجه الأعمال والأسواق إلى احتياجات وتطلعات المجتمعات والمدن؛ والتي تنكفئ وتستقل بنفسها، فتتطور الزراعة والصناعات الغذائية والدوائية الموجهة أساسا للمجتمعات والأسر وتحسين حياة الناس بالاتجاه الذي يمنح الناس المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والمعنى والجدوى، وينشئ تماسكا اجتماعيا في إطار المدن والبلدات، وحول ذلك تنشئ المدن والمجتمعات الأسواق والمرافق الصحية والاجتماعية والثقافية على النحو الذي تدير به شؤونها وتشغل أكبر عدد من الناس إن لم يكن جميع الناس.
هكذا سيكون لكل مدينة، إن لم يكن جميع المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية من غير حاجة إلا بنسبة قليلة للعاصمة والخارج، وتتحول الدول إلى منظومات فيدرالية من عدد كبير من المدن المستقلة أو شبه المستقلة، ويملك المواطنون جميع الموارد والمؤسسات الناظمة لحياتهم وأعمالهم، وتنسحب المؤسسات المركزية وتعيد تنظيم أهدافها واتجاهاتها وعلاقاتها بالمستهلكين والأسواق والسياسة والاجتماع باتجاهات وقواعد مستمدة من المشاركة والندية.
وبالطبع فإنها اتجاهات وقيم لا تأتي مستقلة أو استجابة لاقتراحات ومواعظ ثقافية أو توجيهية، لكن التطور التقني الجاري في العالم يتيح للناس القدرة على إنتاج وامتلاك الطاقة والتواصل مع العالم والقدرة على إنتاج الأعمال والموارد من غير حاجة كبرى لمؤسسات واستثمارات كبرى أو مركزية، نتحدث عن تنظيم اجتماعي اقتصادي تدعمه التكنولوجيا والموارد الجديدة، وليس من بشرى ومواعظ ليبرالية أو أيديولوجية.
مازالت المواجهة مع الأزمات السياسية بعامة تحكمها سياسات وأدوات آفلة لم تعد تصلح للإدارة والمواجهة، ففي حين تنتمي الأزمات القائمة إلى عصر الشبكية بما تعنيه من تغير في دور الدول والموارد والفرص ومفهوم الصراع وطبيعته، تنتمي المواجهة إلى عصر المواجهة بين الدول والجيوش، وتنشأ بسبب ذلك متوالية من الشرور والأزمات؛ إذ ليس ثمة عدو محدد فيزيائيا يمكن أن يصب عليه عدوه الآخر غضبه ويحشد ضده الجيوش والإعلام، وفي ذلك لم يعد واضحا من العدو ومن الصديق، وتتآكل بطبيعة الحال عمليات المواجهة والاستعداء والتعبئة والحشد، ولم نعد نعرف من نقاتل، ولا نعرف جدوى أو معنى للسياسات والصراعات والحروب والقوانين والعلاقات والمنظمات الدولية، كأنها عمليات مواجهة في الظلام بين عملاق قوي مسلح وأقزام ضئيلة لدرجة يعجز العملاق عن رؤيتها أو استخدام قوته وسلاحه ضدها، وتنشأ بطبيعة الحال مواجهات وصراعات طويلة لكن أحدا لا يجزم اليوم بأنها مواجهة تضعف بالفعل الإرهاب والتطرف أو تزيدهما، بل من المؤكد أن الإرهاب والتطرف يكسبان كل يوم مؤيدين جدد، والأكثر تعقيدا وإرباكا أن فئات اجتماعية جديدة تتحالف اليوم مع الإرهاب الأيديولوجي؛ ما يزيده صلابة وتماسكا وقدرة على البقاء والتماهي.
الحال أنه ليس لدينا في ظل عدم اليقين المهيمن على المشهد سوى أن نبحث عن وسائل مواجهة نرجح أنها ملائمة، وأن ننشئ مؤسسات جديدة ونغير في المؤسسات القائمة على النحو الذي يخدم التقديرات والترجيحات الممكنة في المواجهة، فمن المرجح إن لم يكن مؤكدا أن ثقافة الحياة قادرة على أن تواجه ثقافة الموت، وأن الازدهار والعدالة والحريات أقدر على مواجهة الكراهية والشعور بالظلم والإقصاء والتهميش، وأن تشبيك العلاقات والمصالح بين الدول والطبقات والمجتمعات والأفراد يقلل من قدرة الأعداء والإرهابيين على جذب المؤيدين والأنصار، وأن الاعتماد على المشاركة والقيم السامية والإنسانية العليا ينمي الولاء والانتماء أكثر من الاعتماد على المحفزات البدائية للإنسان مثل الخوف والقهر والجوع، العكس فإن مواصلة الاستعلاء على فئات من المجتمعات والناس وتهميشهم يزيد العداء والكراهية.
ليس ثمة أفق لمواجهة التطرف سوى عمليات صعبة ومعقدة من الازدهار الاقتصادي والإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي، وما من مواجهة مباشرة أو فاعلة مع التطرف سوى التقدم والتنمية الإنسانية. ولم يعد ممكنا أو مجديا أو ذا معنى مواجهة التطرف والكراهية بصراعات سياسية وأمنية وعسكرية مباشرة سوى في حالات وحوادث محددة تكفي القوانين السائدة والمتبعة والمؤسسات الأمنية والقضائية للتعامل معها ولا يمكن الزيادة على ما هو موجود من ذلك بالفعل.
الإصلاح اليوم يبدو مرهقا، ويحتاج إلى خبرات وأدوات جديدة ووعي جديد أيضا، وفي ذلك يجب إطلاق الطبقات والمجتمعات لتتحرك بحرية وفي مسار من التجريب بما في ذلك من آلام وأخطاء وتضحيات بقسم كبير من الطبقات والمؤسسات السائدة على النحو الذي تحقق به الانسجام الممكن بين وعيها وواقعها، إذ أنه اليوم في ظل الشبكية وانتشار المعرفة يتشكل اجتماعيا وجماهيريا ذكاء جماعي ووعي ومعارف واسعة ومتقدمة تنتمي إلى اللحظة القائمة، لكن الواقع المهيمن ينتمي في قيمه وأفكاره ومؤسساته وعلاقاته إلى فترة سابقة لم تعد مقوماتها موجودة. وحتى لا تتكرر المواجهة ومحاولات التأجيل مع الاستحقاقات والتداعيات التي نشأت حول المطبعة والكهرباء والمحركات البخارية فإن ما نحتاج إليه بالفعل هو التعجيل بمواجهة ذواتنا بالحقيقة الناشئة عن الشبكية وتحولاتها الاجتماعية والحضارية، وفي ذلك فقط نوقف الصراع ونقلل من الخسائر والهدر في الأنفس والموارد؛ لأنها مواجهة قادمة حتما، لكن التأخر فيها يزيد الآلام والتضحيات.
يتوقع المستقبليون، كما يقول ريتشارد واتسون في كتابه “ملفات المستقبل” أن الحكم سوف يكون حول المدن أكثر مما هو حول الدول. وفي ذلك عودة إلى الدولة المدينية التي كانت طابع الحضارة القديمة في معظم أنحاء العالم. وتؤدي اتجاهات القلق والبحث عن معنى، إلى نزعات جديدة في التقشف، وتحولات في الأسواق والسلع والنظام الاقتصادي. كما أن التغيرات البيئية سوف تغير في خريطة العالم والدول. وبدخول الأنظمة الإلكترونية إلى التصويت، فإن ذلك يغير كثيرا في المشاركة العامة ونتائجها.
وقد أخذت الأمة تفقد أهميتها، والسيادة الوطنية تتعرض للانتقاص والتهديد من قبل العولمة والشركات والمنظمات الدولية والحركات الاجتماعية. يصاحب ذلك تراجع في أداء الحكومات في مجال الخدمات الأساسية والبنى التحتية؛ الصحة والتعليم والنقل، ولم تعد الصراعات تجري بين الدول، وإنما هي داخلية. ومع زيادة عمر السكان وتراجع الخصوبة وانخفاض عدد السكان، فإن الدول سوف تواجه تحديات في التجنيد وبناء الجيوش.