المهندس غيث القضاة
من هو العلماني؟
بقلم:المهندس غيث القضاة
من أكثر التعريفات شيوعا للعلمانية هو ذاك الذي يُعرفها بأنها فصل الدين عن الدولة، ولعل هذا التعريف تعريف قاصر وقديم لأنه يحصرها في المجالات الاقتصادية والسياسية فقط،غير متناسين أن أحد أوجه هذا المبدأ السياسي بدأ ينادي به بعض الاسلاميين هذه الايام عندما بدأوا يُنادون بفصل السياسة عن الدين ، متجاوزين ذلك الاشتباك الفكري والخصومة التاريخية القديمة في مفهوم المصطلح والذي ساد لعقود طويلة محاولة منهم في ذلك الوقت تحطيم مصطلح العلمانية أو محاربته أو نقده واسقاطه.
ما هي العلمانية التي نخشى منها اذا ؟ وما هو المشروع العلماني الذي يُقلقنا ويجعلنا نتوقف كثيرا أمام تنظيره الفكري؟ وما هي العلمانية التي تجعل جميع الاطياف السياسية تقف صفا واحدا لمحاربتها والوقوف ضدها بصرف النظر عن الدين او التوجه السياسي، وماهي العلمانية التي تقف الكنيسة والمسجد ضدها ! وما هي العلمانية التي توحدنا جميعا وتجعلنا نشعر بخطورتها على مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة .
من المفهوم ان هنالك عداء تاريخيا من جانب الثورة الفرنسية للدين والتي نادت بالعلمانية في ذلك الوقت ، الذي جاء بمثابة رد فعل على هيمنة الكنيسة التي تحالفت مع النبلاء واعطتهم امتيازات اثارت غضب الناس وجعلتهم يثورون ضد الظلم والتسلط، فجاءت الدعوة حينها الى علمنة المجتمع الغربي وعزل الدين عن الحياة ومحاربة الكنيسة والدين ،ولا بد من الاعتراف بأن ذلك الفصل بين الدين عن الدولة في العالم الغربي أدى الى تعزيز سلطة القانون وسيادة السلطة وتمخضت العلمانية هناك إبان عصر النهضة عن ثورة فكرية واصلاحات سياسية مهمة وتجذرت الديمقراطية لديهم ،ولكن هذا الفصل المتعسف نزع أوروبا والغرب من روحها وقام الى حد كبير بتمزيق الانسان والمجتمع مع مرور الزمن ، الامر الذي جعل الكثير من المفكرين الغربيين مؤخرا يطالبون بعودة الدين الى الحياة هناك وليس الى السياسة !
في الجانب السياسي يبدو أن العلمانية في الغرب -كما يقول المفكر التونسي الغنوشي -حررت العقل من سلطة الدين ،وحررت الدين والمجتمع من سلطة الكنيسة ،بينما هي في التجربة العربية رهنت الدين والمجتمع والعقل لكنيسة جديدة هي دولة النخبة العلمانية ،ففيما بدت العلمانية الغربية لصالح المجتمع وفي خدمته فإنها في التجربة العربية ظلت دائما ضد المجتمع وضد طموحات الجماهير حيث استولت النخب العلمانية في بعض الدول العربية على الأوقاف ومؤسساته وتحكمت في المساجد وبقي القرار السياسي قرارا فرديا وتم احتكار السلطة لصالح نخبة معينة ، وأصبحت السلطة هي المرجع الوحيد للمجتمع !وتحولت معظم النخبة العلمانية بعد استلامها للسلطة الى آلة بطش تعيق مسيرة المجتمع وتكرس التخلف لديه ولم تتحقق الديمقراطية اطلاقا على ايدي العلمانيين في العالم العربي كم كانت وعودهم بذلك .
في الجانب الأخلاقي والسلوكي فإن العلمانية التي نخشى منها في العالم العربي هي تلك التي تهدف الى جعل جميع الامور في حياة الانسان امورا نسبية بحيث تصبح مرجعية الانسان تكمن في ذاته، وتقوم تدريجيا بفصل الانسان عن أي مطلقات انسانية او اخلاقية، وتسعى باستمرار الى اجتثاث الدين من حياة الانسان وتهدف الى تحويل الانسان بالكامل الى آلة لا تعرف الا المصلحة والمنفعة ولا تعرف الاخلاق أو التراحم و لا تؤمن بالمرجعيات الأخلاقية والدينية أو ثوابت المجتمع التي تنظم حياة الفرد والمجتمعات ،او تلك التي تريد فرض التجربة الأوروبية بالكامل على العالم العربي دون أدنى مراعاة لخصوصية العالم العربي وانتماءه وتمسكه بالدين.
هل هنالك معتدلين ومتطرفين وغلاة عند العلمانيين كما عند الإسلاميين؟ الإجابة نعم، وهنالك طروحات يمكن مناقشتها مع المعتدلين من العلمانيين والاتفاق عليها معهم فيما يتعلق بفصل الدين عن السياسة، وفيما يتعلق برفض التسلط الديني على السياسة، وفيما يتعلق بالرغبة بالتقدم والتنوير والدفاع عن الديمقراطية والتعددية وقبول الآخر وجميع المسائل المتعلقة بحقوق الانسان ومحاربة التطرف وهنالك فرص كبيرة للقاء والتفاهم على ثوابت مشتركة ولا نستغرب حينها إذا كان المشترك بين الجميع واسعا أكثر مما نتصور ونتخيل.