رمزي الغزوي
تحتاجُ قلباً أكولاً شرها بعشر حجرات واسعات يلتهم ما تيسر من أكسجين لا يشوبه فحمٌ وهبابٌ؛ تحتاج هذا وأكثر لتكتب عن زهرة نثرت الرماد الساخن عن تاج رأسها، وبزغت نجمة صبح تبشّر بنهار فسيح. تحتاج جسارة العاشقين القدامى في الليالي المعمورة بالقمر لتغرد بعيدا عن سرب المقالات المدججة بالتحليلات والبيانات والمواقف هذا زمن الحروب وانبعاجات الخُطى، فكيف يسايرك قلبك لتتغزل بشهر يكتئب مقرفصا على مفارق الفصول أهذا المضطرب المشدوه على عتبات الصفرة والذبول يستحق أن تغني له وترسمه بالكلمات.
تشرين الخريف سيد الفصول لو يعلم العذال الراضخون لهمس الاعتياد القتّال. في تشرين أسمي الأشياء بأسمائها غير المستترة بالتوريات والتشبيهات البليغة. الغيوم الماخرة عباب السماء ليست إلا حيتاناً طيبة في رقصتها النشوى، والمطر الأول قبلة حرّى بين أرض عطشى وسماء تلتاع شوقاً لضمة حضن بعد غياب.
والندى حبيبك الوفي أيتها الصباحات اليانعة بالشوق المبثوث في انتظار الغائبين.
في تشرين شتاءات مزاجية مباغتة تعطرنا برائحة التراب، وتذكرنا بالقُبل المسروقة من مواربة الأبواب واللقاءات الخاطفة. في تشرين مقطوعات وقصائد من ربيع جفّ منذ شهور.. العصافير الصاخبة في مفتتح الفجر تستعيد صخبها وتتهيأ لكمون شتاء يلوح في مهب الوقت، وفيه ورد الغريب الداجن في حدائق البيوت وقواوير الشرفات بعد إعلان ثورته الحمراء. بعضهم يسمونه ورد الغريب. وأنا أسميه ضحكة تشرين.
ولتشرين نكهة أخرى لا تدركها أغاني الصيف المجدولة بالمواويل والعتابا وظريف الطول، وضحكات السهر والأصدقاء والأعراس المجنونة. تشرين هذا الفتى المغسول بليفة المطر المعطر بلثغة سفرجل فوّاح تدلى على أمه كرات من ذهب شهي بهي. هو عباءة شمس خفيفة ترفل فوق أكتاف الوديان الآيلة للحياة بعد الحياة.
تشرين أبو الزيتون يومَ كان الزيت عمارة البيت، ومسمار الركب، ونسغ القناديل النابضة المنصتة بخشوع لحكايات الأجداد. هو عريسنا المخضّب بعبق الطيّون، وحنين القُبَّرات وشغب الزرازير المنهكة بعد ليلها الطويل. لتشرين نكهة أخرى كتلك المخبأة في أثواب جداتنا المتعبات في مواسم الحصاد. فسلام على الجدات في العالمين.
في تشرين يصير النهار خطوتين اثنتين على رأي أبيك العجول في طفولتك القريبة حدّ الوريد، والمدرسة القبيحة كانت تبلع أكثر من خطوة منه. فماذا سيبقى من جحش النهار لنسابق قرص الشمس المخاتل بين فروج الغيم. الموسم زيتون أيتها الشموسة فتمهلي. تمهلي كثيرا لنلحق أهلنا في الكروم. دعينا نسرع مثل غزلان تنقض إلى عين الماء، ونطير كعقاب لنسبق ظلنا الممطوط فوق التراب. ألا تمهل أيها النهار.
سلامٌ على الزيتون ما حنَّ تشرينُ لقبلة أخرى، وما غنَّى بلبلٌ على شجر الحور الميّاس المتمايل بأصابع الريح. سلام عليك يا أرضنا المخضّبة بالعناء والحناء. سلامٌ علينا إذ نجترُّ بقايا أغانينا الساكنة في الأعماق ونتناسى وقع الحروب وظلالها. سلامٌ على جنون أنفاس حرى يبقينا صغاراً برسم الكهولة ندرجُ على عتبات الطفولة فلا نكبر أو نشيخ.