د.حسام العتوم
ككاتب صحفي و إعلامي أردني و عربي مثلي متخصص في الشأن السياسي الروسي , و سبق لي أن تخرجت من جامعتين روسيتين حكوميتين في مجال الصحافة و الإعلام (فارونيج و موسكو) , وعرفت لغتهم وعشت الحياة الروسية الجميلة في قراها و مدنها و عاصمتها , و شاركت في مؤتمراتهم العلمية و الثقافية , و صاهرت الروس , و لازلت بسرور اتردد على روسيا , ولم يمنعني عنها إلا جائحة كورونا , فأنني وبخصوص موضوع المعارض الروسي (اليكسي اناتولوفيج نافالني ) , و بحكم متابعتي لشأن القيادة الروسية الحكيمة برئاسة فلاديمير بوتين , و بحضور سيرجي لافروف وزير خارجيته , و سيرجي شايغو وزير دفاعه , و رئيس وزرائه ميخائيل ميشوستين , أقف على الحياد , و أمسك قلمي من الوسط لأرصد بموضوعية ما يدور في هاجس المعارض الروسي السياسي الشاب نافالني (44) سنة بشأن بلاده العملاقة و العظمى روسيا الإتحادية ,و مسار القيادة الروسية في المقابل الأكثر تمسكا بالقانون ألدولي وسط عالم متعدد الاقطاب , و لا تؤمن خارج إطاره بتغول القطب الواحد على دول العالم , و لا تعترف بالحرب الباردة منذ إندلاعها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 , ولاحتى بسباق التسلح المرهق لخزينة الدولة الروسية رغم احقيتها في التطوير العسكري المستمر خاصة على المستوى غير التقليدي ( النووي ) منه , و حرصها على التفوق النوعي بغض النظر عن فارق فجوة الموازنة العسكرية لصالح حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ( 50 مليار دولار مقابل 705 مليار دولار ) . ولا ننسى هنا بأن روسيا تحديدا هي من قادت النصر في الحرب الوطنية العظمى (العالمية الثانية ) 1945 و بفاتورة مشتركة مع السوفييت و صلت الى 27 مليون شهيد لتحقيق نصر أكيد على الهتلرية النازية بقيادة أودولف هتلر وقتها . و قادت روسيا ألحرب على ألارهاب في سورية عام 2015 و بنجاح ملاحظ , و قوبلت بفوبيا غربية – أمريكية (( RUSSOPhobia ,ساهمت فيها دول عديدة حليفة للمعسكر الغربي , فماهي قصة نافالني هذا ؟
بداية لاتوجد دولة في العالم لا يوجد فيها معارضة , فما بالكم دولة عظمى مثل روسيا بحجم قطب كبير مساحته تجاوزت ال 17 مليون كلم2 ( 81 من مساحة الأرض ) , و تعداد السكان فيه يقترب من 150 مليون نسمة . و لا وجود لدولة تخلو من قضايا الفساد الكبير و الصغير الواجب إجتثاثه . ولم يشهد تاريخ العالم وجود دولة فاضلة نبيلة تسود فيها العدالة و المساواة وفقا لأحكام الدستور . وما يتعلق بروسيا الحديثة في عهد الرئيس بوتين , وحتى منذ بداية عهد بوريس يلتسين عام 1991 بعد الأنهيار السوفييتي المعروف , فإنها أديرت ولا زالت تدار بطريقة مركزية تسمح للفساد بأن يخترق نظامها السياسي , و الأقتصادي , و الأجتماعي .
و بالإمكان في المقابل دمجه مع اللامركزية لتفادي الإختراق , و لتحقيق العدالة التي ينتظرها الشعب الروسي الموزع على 85 إتحادا فيدراليا و أكثر من مائة قومية , و لتتمكن القرى و مدن الدرجة الثالثة من تعبيد طرقها ألداخلية التي لازالت ترابية حتى وقتنا هذا و بنسبة 60% , ومنها القريبة من العاصمة موسكو . والإقتصاد الوطني الروسي الناهض محتاج لإعادة البناء بعد الإعتماد في الصناعات الوطنية على الذات , حيث الملاحظ في السوق الروسي غزو الصناعات السوفيتية السابقة و الأجنبية الغربية , و الصينية له . و في المقابل أيضا , فإن إيرادات روسيا من الصادرات عملاقة ( سلاح , و محطات نووية سلمية , وبترول , و غاز , و أخشاب , و أسماك , و كفيار , و قمح , و زيت عباد الشمس , ومركبات للطبقات المتوسطة في العالم مثل ( اللادا ) , ومقاعد دراسية مدفوعة الأجر الى جانب المنح الدراسية , و تبادل تجاري عالمي ملياري دولاري ) , و تعاون دولي مدفوع الأجر للفضاء . و الأصل أن تصب جميعها في مصلحة شعوب روسيا خاصة وسط طبقتها الفقيرة الواسعة والتي نسبتها 70% , المتلاحمة مع الطبقة المتوسطة العاملة التي تعاني من تعطل رأس المال و السوق وسطها و نسبتها حوالي 20%.
وقبل أن أقترب أكثر من سيرة المعارض الروسي اليكسي نافالني , أدعو ألانتباه إلى تحول المجتمع الروسي من الطبقة الواحدة ( السوفيتية ) , إلى طبقات متعددة ثلاثة ملاحظة ( عامة , و متوسطة , و أوليغارج – ثرية ) بعد ألأنهيار السوفييتي . و هو ألأمر الذي يرسخ معه إحتمالية إنتشار الفساد و غياب العدالة التي يبحث عنهما معارض روسي بحجم نافالني . و أيضا الحزب الشيوعي الذي كان حاكما قبل إنهيار الأتحاد السوفييتي عام 1991 , و أصبح معارضا , و أبعد بالكامل عن المشاركة في السلطة ,و تم حصر مشاركته بالبرلمان في زمن سيادة حزب ( روسيا الموحدة ) الحاكم الذي رافق قيادة بوتين لروسيا منذ عام 2001 , وحتى بوجود دميتري ميدفيديف رئيسا في الفترة الانتقالية للسلطة في موسكو و فقا لأحكام الدستور ( 2008 2012 ) . و يعتبر الحزب الديمقراطي الليبرالي بقيادة فلاديمير جيرينوفسكي النائب الساخر من صنوف المعارضة الروسية الوطنية . فبماذا تخصص نافالني الذي أودع السجن من جديد فور عودته إلى بلاده روسيا في مطاري فنوكوفا و شيريموتموفا قادما من ألمانيا التي مكث فيها بقصد العلاج بعد تعرضه لوعكة صحية في سيبيريا في مدينة أومسك و شبهة تسمم إتهم فيها سلطة بلاده بأنها وقفت وراء ذلك ؟ و لماذا إستقبله مناصريه و بحشود كبيرة في ألمطار ؟ ماهي الرسالة التي حملها معه من المانيا ؟ وماذا أراد الأمن الروسي منه عندما أمر بإعتقاله فورا ؟ و هل إعتقاله صدر بقرار أمني أم سياسي أم قضائي ؟ دعونا نغوص معا بحثا عن الحقيقة و ما وراءها و بطريقة إستقصائية يرافقها عنصر ألتشويق .
و بالمناسبة بوتين ليس نيكولاي تشاوتشيسكو الرئيس الروماني 1918 1989 كما يعتقد ( نافالني ) ربما بأنه يشبه سلوكه في الثراء غير المشروع , وهو غير صحيح , و غير منطقي , بينما هو بوتين من أخيار قادة روسيا منذ الزمن السوفيتيي , و هو محسوب على كبار قادة الأمن الروسي في التاريخ المعاصر مثل ( أندروبوف , و بريماكوف ) الذين عرفو بإلاستقامة , و النزاهة , وبإخلاصهم الوطني و القومي . و يشبه في التاريخ صلابة ( جوزيف ستالين و قائده العسكري جيورجي جوكوف ) . و هو أي بوتين من أعاد إقليم ( القرم ) بقوة صناديق الأقتراع رغم إتهام أوكرانيا لروسيا بإحتلاله , و بصرف النظر عن تحرشات أمريكا بموضوعه حسدا , و هو من إحتفظ بالإرث ألتاريخي لجزر ( الكوريل ) الروسية السوفيتية سابقا بعد السيطرة عليهن إبان حرب اليابان الخاسرة مع السوفييت نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 , و أعلن بوتين مؤخرا هذا العام 2021 إنفراد بلاده روسيا بإنتاج لقاح كورونا ( COVID 19 ) , الفريد بجودته عالميا و بنسبة مئوية وصلت مختبريا غلى 99% .
و لذلك جاءت إرادة النخبة السياسية لتتفق مع إرادة الشعب الروسي بإلابقاء على بوتين رئيسا لروسيا ما دامت صحته تسمح بذلك , و حتى في زمن قادم يتجاوز المدد الزمنية التي يسمح بها الدستور بإعتلاء موقع رئيس البلاد عام 2024 ,فسوف يتم الذهاب لإستفتاء شعبي لبقائه في السلطة حتى عام 2036 حصانة و حماية لمستقبل روسيا , التي تضعها أميركا و حلفها الأوروبي – ألغربي ( الناتو ) في دائرة المماحكة و الحسد بسبب نهوضها التدريجي على مستويات مختلفة . وما يوضع تحت تصرف بوتين من خدمات حياتية , فإنها تعود ملكا للدولة الروسية .وقانون روسي جديد يعفي قادة روسيا من المساءلة .
وفي المقابل يؤخذ على الأعلام الروسي بقنواته المختلفة ( 1 , 24 , و برنامج 60 دقيقة – RTR) إهتمامه الزائد و الفضولي , و المبالغ فيه في الشأنين الأوكرواني , و ألأمريكي الإنتخابي على حساب الإهتمام بقضايا الشارع الروسي على مستوى إرتفاع الأسعار و منها المحروقات , و الكهرباء , والغاز , و العلاج في المستشفيات , ودراسة الطب , و إنخفاض مستويات الرواتب الحكومية و التقاعدات , و ذهاب خيرات المحافظات اإلى كبريات المدن الروسية مثل العاصمة ( موسكو , و سانت بيتر بورغ , و سوتشي ) و بنسبة مئوية تصل إلى 80% .
و اليكسي نافالني محامي من مواليد عام 1976 , وناشط سياسي منذ عام 2009 , ناقد و مطارد للفساد في بلاده , و هو زعيم لحزب التحالف الشعبي غير المسجل , و عضو تنسيقية المعارضة الروسية , و رئيس لصندوق مكافحة الفساد , و سبق له أن رشح نفسه لرئاسة بلدية موسكو ولم يحالفه الحظ عام 2013 . و اتهم بسرقة 16 مليون روبل من شركة اخشاب و اعتبرها قضية ملفقة , و حكم عليه بالسجن . و في مقابلة مع دير شبيغل بتاريخ 110 2020 إتهم بوتين بتسميمه في سيبيريا , أي بأمره , و هو ( الذي لم يتم اثباته حتى الساعة ) , بينما كان في طريقه لموسكو 20 اغسطس 2020 , و تم نقله لالمانيا للعلاج . ووقفت المانيا إلى جانبه من زاوية حقوق الأنسان , و طالبت موسكو بالافراج عنه . و يعود موضوع سجنه مؤخرا كما اعتقد لعدة أسباب مجتمعة أولها توجيه تهمة التخابر مع اجهزة أمنية غربية , وهو ما ورد على لسان رئيس مجلس الدوما ( البرلمان ) فيجيسلاف فالودين بتاريخ 10 1 2020 ) , و السبب الثاني أورده سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا لإعلام بلاده بقوله بأن نافالني إخترق الإقامة الجبرية الروسية عدة مرات سابقا , و بأن الدول التي تشغل نفسها بموضوع نافالني تريد صرف الأنتباه عن قضاياها الداخلية , و السبب الثالث يعود لكي لا يعطى فرصة العبث بالشارع الروسي عبر ثورة برتقالية شبيهة بالإوكرانية , وفرصة أيضا مقابلة للأمن الروسي ليعرف منه مباشرة عن مخططاته و أهدافه داخل روسيا , و المطلوب رقم ( 1 ) لها و ليس غيره من حيتان المال الأسود , و العائد للتو من المانيا المساندة لقضيته . و أمر إلقاء القبض عليه بتاريخ 17 كانون الثاني الجاري في مطاري موسكو ( فنوكوفا و شيريميتوفا ) هو قضائي بحت ,و مرتبط بطبيعة الحال بكل ماهو سياسي و أمني .
و ردود فعل متفاوته و متناقضة وسط الشارع الروسي و النخبة السياسية الروسية , و في العالم حول قضية المعارض الروسي نافالني , فلقد عزا النائب رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي جيرينوفسكي موضوع نافالني لوجود شرائح منحرفة داخل المجتمع الروسي مساندة له , و قول لزعيم الحزب الشيوعي الروسي زوغانوف بأن روسيا في قضية نافالني غير محتاجة للعودة إلى عهد يلتسين و جوبايس الفوضوي , وسبق له أن رفض عرضا خارجيا لتحريك الداخل الروسي , وقوله بأن نافالني يستهدف الميدان الروسي أي ( الثورة ) ,وفي المقابل حسب رأيه لا مكان في روسيا لدور فاعل للشيوعيين بعد فقدان سلطتهم و بوجود حزب ( روسيا الموحدة ) الحاكم الرافض لأية منافسة في العمل الوطني . و رأي للملياردير إيقور ريباكوف في موضوع نافالني بضرورة الإصغاء للرئيس بوتين الذي دعا لعدم إعطاء أهمية لقضية حراك نافالني ,و يقابل ذلك الحدث هذا أبرز صحوة لتوجيه عقوبات غربية جديدة على روسيا .
وفي الوقت المتوقع فيه أن تتحرك مسيرات و مظاهرات في موسكو تطالب بإلافراج عن نافالني , و هو الذي لم ينصح به رئيس بلدية موسكو و عمدتها سيرجي سوبيانين , بدأ الحراك الروسي فعلا في الشارع الروسي و تموضع عبر اليوتيوب للدعوة للتظاهر , و هو النمط ألاتصالي الذي إستخدمه نافالني نفسه لتبيان الثراء الفاحش غير المشروع لكبار المسؤولين الروس بالأرتكاز على وثائق حصل عليها من ألاجهزة اللوجستية الغربية . وحسب وكالة CNN بتاريخ 23كانون الثاني 2020,فإن السفارة الأمريكية بموسكو لديها تفاصيل الأحتجاجات الشعبية الروسية , وهو ما رصدته وزارة الخارجية الروسية و اعتبرته تدخلا سافرا في شأن روسيا الداخلي يتجاوز القلق على رعايا أمريكا في روسيا بخصوص قضية نافالني . فما هي موازين القوى بين المعارض نافالني و القيادة الروسية يا ترى ؟ هنا ببساطة من ألممكن القول بأن نافالني يرتكز على الطبقة الكادحة الروسية و التي تمثل 70% , و على الطبقة المتوسطة غير الفاعلة و التي تصل نسبتها إلى 20% تقريبا , مع بقاء ما نسبته 10% أقل أو أكثر لطبقة ألأوليغارج – الأثرياء المحسوبة على النخبة السياسية رفيعة المستوى و على السلطة . و يقابل ذلك إعتماده على مؤسسة حقوق الأنسان ( Human Rights ) , و إعتماده على الغرب المحرك للحرب الباردة بإستمرار تجاه روسيا الصاعدة . و يمتلك قصر ( الكرملين ) بطبيعة الحال سلطة أتوقراطية و بيريو قراطية يصعب إختراقها , , حزب حاكم ( روسيا اليوم ) , و جهاز أمني – لوجستي ( FCB ) مسيطر داخليا ,وله إمتدادات خارجية , و هو الذي كان يسمى ب ال (KGB) سابقا في العهد السوفييتي .
شخصيا أتمنى على موسكو تقديم السياسة على الأمن , والحكمة على الصدام , وإستيعاب مثل هكذا نوع من المعارضة الموضوعة روسيا تحت علامة إستفهام , و الأهم اليوم هو التفرغ لمواصلة بناء روسيا قوية تمثل بيضة القبان بين الشرق و الغرب , خاصة و أن روسيا معروفة بشدة تمسكها بالقانون الدولي و حقوق الأنسان , و الأهتمام بالداخل الروسي و قضاياه على رأس أولويات الحاضر , وهو مطلب شعبي روسي ان ألاوان للأستماع له . ومن غير الممكن تصور وجود للعالم من دون روسيا حضارية ناهضة , وهي التي قدمت و لازالت تقدم الكثير لشعوب العالم و دولها وعلى كافة المستويات التعليمية , و الصحية , و الثقافية , و العسكرية , و الأمنية , و النووية السلمية , و على مستوى البنية التحية .