د.عبدالله القضاة
فرضت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم، نمطاً سلوكياً جديداً على العديد من شعوب الأرض، ونحن في المملكة الأردنية الهاشمية نتطلع دائما الى تحويل المحن إلى منح؛ إذ إن المصائب التي لا تقضي علينا تعدُ قوة لنا، لذا نرى كان لزاماً علينا أن نطلق العديد من المبادرات التي تهذب سلوكنا الاجتماعي، بحيث نؤديه بشكل حضاري؛ يستجيب لمتطلبات ديننا الحنيف، وقيمنا السمحة، في التخلي عن بعض العادات الاجتماعية التي ترهق كاهل المواطن، وتشكل عبئاً اجتماعياً لا يطاق وخاصة أننا نعيش ظروفاً اقتصادية صعبة.
نمارس في أفراحنا وأتراحنا طقوساً بعيدة عن المنطق، تهدف أحياناً للتفاخر والكبرياء، وأحياناً أخرى للنفاق الاجتماعي، والتقليد الأعمى، لمجتمعات نختلف معها حضارياً وفكرياً ومادياً، تنتهي مناسباتناً وتترك فينا الألم والحسرة، لضيق ذات اليد، بعكس ماكنا نتظاهر به ونحن نعيش تلك الحظات الكاذبة.
ومن العادات غير الحميدة المتبعة في حالة الموت أيضاً، تأخير لدفن المتوفى حتى يحضر أكبر عدد من المشيعين، أو انتظار غائب لأن الأصل هو عدم انتظار الغائب، فقد قال الإمام الشافعي في الأم: ولا ينتظر بدفن الميت غائب من كان الغائب. ثم يجري استعراض شعبي غير طبيعي بعد تشيع الجنازة، بالمباهاة في تقديم الولائم، وتصوير المعزين، وإقامة بيوت العزاء، وتقديم الطعام والضيافة التي ترهق غالبية الناس منا. ولكن بعد أن تنتهي مراسم العزاء، ويخلو الناس ببعضهم؛ يتبين لك أن أهل الميت قد استدانوا ثمن الكفن، واقترضوا تكاليف مراسمهم الزائفة!
ولو نظرنا في تعليمات السنة النبوية المطهرة؛ سنجد أن إكرام الميت التعجيل في دفنه، روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها عليه، وإن يكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم. كما قال عليه السلام: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، في الحديث الذي أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ومما جاء في الموسوعة الفقهية :” فلو جهز الميت صبيحة الجمعة يكره تأخير الصلاة عليه ليصلي عليه الجمع العظيم، ولو خافوا فوت الجمعة بسبب دفنه يؤخر الدفن، وقال المالكية والشافعية أيضاً بالإسراع بتجهيزه، إلا إذا شك في موته”.
أما عن الولائم التي يدعى لها الجمع، في مناسبات العزاء؛ فإنها مخالفة للسنة النبوية، فقد أمرنا صلَّى الله عليْه وسلَّم، أن نصنع الطعام لأهل المتوفى، لا أن نكلفهم أن يصنعوا لنا الطعم -: «اصنعوا لأهل جعْفرٍ طعامًا، فإنَّه قد جاءهم ما يشغلهم»؛ رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعليه فالطعام لأهل الميت فقط يرسل لبيت الميت لا لديوان العشيرة أو مكان اجتماعها، ولا يدعى إلى الطعام أحد. وأمَّا عن مدَّة التَّعزية، ففق ذهب جمهور الفُقهاء على أنَّ مدَّة التَّعزية ثلاثة أيَّام، والأصل أن تكون في مكان الدفن، إذ أن الراجح لدى العلماء كراهة الجلوسُ لتلقِّي العزاءِ في المنزل، أو غيره من قاعات العزاء، وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأنه محدث وهو بدعة، وعن جريرِ بْنِ عبدالله البَجَلِيِّ – رضي الله عنه – قال: “كُنَّا نعدُّ الاجْتِماعَ إلى أهل المَيِّت، وصنعة الطعام من النِّياحة”؛ رواه أحْمد وابْنُ ماجه، وصحَّحه النَّوويُّ.
وفي ضوء ما تقدم فإنني أدعو الى مبادرة وطنية أردنية، تنظم عادات العزاء وتضبطها بالشكل التي يحدُ من التكلفة المادية على أهل الميت، والتقليل من المراسم الزائفة في مجتمعنا. كما أدعو إلى أن يكون العزاء في موقع الدفن، وأن يفتح بيت للعزاء في حالات محدودة وخاصة، وبوقت محدد؛ مثلاً من الساعة الثالثة ظهراً وحتى التاسعة مساءً، على أن يحضر لبيت العزاء كل من قدم الواجب في موقع الدفن؛ وأن تقتصر الضيافة على القهوة العربية والماء، ويعلن قبول التعزية طيلة الأيام الثلاثة من خلال وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة.
نتمنى أن يتم تبني هذه المبادرة بشكل مستدام من كافة أبناء الأسرة الأردنية الواحدة، لنكون مثالاً في الواقعية والتصالح مع أنفسنا، على أن تتبعها مبادرات اخرى لتنظيم عملية الأفراح، والمناسبات الاجتماعية الأخرى.
*امين عام وزارة تطوير القطاع العام ومدير عام معهد الادارة العامة سابقا