د.حسام العتوم
ما دفعني من جديد للكتابة في موضوع العلاقات الأردنية الروسية الرسمية الجيدة والمستقرة هو سلوك الدوائر الخدمية في مدينة “روسوش” في محافظة فارونيج جنوب موسكو العاصمة والتي تعتبر الأردن ليس صديقًا لروسيا الاتحادية، وبأنه لايجوز التعامل ايجابًا مع أية معاملة لأي أردني قادم اليهم، وهو امر غريب، ولم يظهر على السطح الا في زمن اندلاع العملية العسكرية الروسية التي حولها الغرب الأمريكي “الناتو” إلى حرب دائمة استنزافية، وشخصيًا وبحكم المصاهرة مع الروس في المدينة تم اعاقة معاملات لي هناك، والتحدث معي بصلافة، وأخيرا سحب اسمي من التأمين على مركبة كنت أقودها في رحلات الصيف، وأنا الكاتب الاعلامي المتخصص في الشأن السياسي الروسي والدولي وبتواضع، وانفرد بذلك تقريبًا، وحضوري عبر القنوات الاعلامية المتعددة معروف ومشهود له أردنيا وعربيا وروسيا وحتى دوليًا بسبب نشاطي السياسي المساند للموقف الروسي قبل الحرب الروسية- الأوكرانية واثنائها وعن قناعة وبموضوعية، وهو موقف ثابت غير قابل للمراوغة، وسبق لي ان تخرجت من جامعتين روسيتين (فارونيج الحكومية وموسكو الحكومية) في مجال الصحافة والاعلام، وتمكنت من تأليف كتابين في الموضوع السياسي الروسي (روسيا المعاصرة والعرب، والرهاب الروسي غير المبرر) والثالث في فرن التحرير حول الحرب الروسية- الأوكرانية الدائرة، وزياراتي لروسيا لم تنقطع أثناء الجلوس على مقاعد الدراسة وبعدها حتى الساعة، وبطبيعة الحال ما اكتبه هنا سيفرح الناقمين على روسيا والحاسدين لجبروتها ونجاحتها السياسية والعسكرية التي أبهرت العالم.
و(روسوش) من المدن القريبة من الحدود الأوكرانية وأقرب منها مدينة بيلغاراد، ويسهل هناك مشاهدة الحراك العسكري الروسي اتجاه أوكرانيا شرقا وغربا على مستوى ناقلات الجنود والمدرعات المحمولة على القطارات والعربات، وطائرات سلاح الجو الروسي تمخر فضائهما ليل نهار، وهما من مدن اللجوء الأوكراني والروسي، ومعاملات يتابعها المواطن الروسي البسيط أيضا هناك، لذلك ورغم التعريف بنفسي كنت ألمس خلطًا بين الأجنبي (الأردني) مثلي وبين اللاجئ والمواطن البسيط، وكل شيء في نهاية المطاف يعود لمهارات الإداريين القائمين على أعمال المؤسسات الخدمية عندهم، وسبق لي أن تحدثت صيف العام المنصرم مع سعادة سفيرنا في موسكو السيد خالد الشوابكة لمتابعة الأمر، أي تصرف الادرايين الروس خارج العاصمة موسكو خاصة مع الأردنيين، ووعد سعادته بالمتابعة مع الخارجية الروسية.
والملاحظ بأنه ثمة فرق بين تعامل وزارة الخارجية الروسية مع الاجانب ومنهم الاردنيين، وبين معاملة وزارة الداخلية واركانها في الميدان، فالاولى تتمسك بإحترام من يتعامل معها ويراجعها والثانية لا تفهم حضورك وتعمل على اعاقة معاملتك قدر الممكن، ولامشكلة في التعامل في المدن الكبيرة مثل (سانت بيتر بورغ)، و(موسكو)، و(فارونيج)، و(روستوف)، والسبب الذي تدور حوله المشكلة هو اعتبار الأردن بصورة غير رسمية وغير ملاحظة بقوة ليس صديقا لروسيا بسبب موقفها الرسمي بالنسبة لهم من الحرب الأوكرانية، علما بأن الأردن وكل العرب ليسوا طرفا في المعركة، ولكل بلد ومنهم الأردن رأي في الحرب وموقف، وربما صعوبة في تفهم ما يجري، وحتى التأثر بموقف الغرب على حساب استيعاب الموقف الروسي، وهو الامر المحتاج من الخارجية الروسية لتوضيحه للأردن رغم اللقاءات على مستوى الخارجية بين الأردن وروسيا المتكررة، ومع الجانب الاوكراني كذلك، والغرب امريكي ايضا. ولا ننسى هنا حجم المساعدات الامريكية السنوية للاردن البالغة مليار و300 مليون دولار إلى جانب وقفات اخرى في مجالات التعليم والصحة وغيرها.
لذلك صوّت الأردن في المرة الأولى في الجمعية العامة للأمم المتحدة لجانب اعتبار إقليم (القرم) تابع للسيادة الأوكرانية، ولم تتأثر العلاقات الأردنية- الروسية، وقابلت روسيا ومعها الصين النتيجة (بفيتو) مشترك وعاد (القرم) روسيا وتعافى، وتعرض لاحقا وقبل فترة زمنية قصيرة لمؤامرة من قبل مجموعة من الدول المحيطة بروسيا عن طريق تلغيم جسر القرم المطل على البحر الأسود وسط عمليات تخريب مرتبطة بخسران الحرب الأوكرانية التي بدأت تجنح لصالح روسيا وبوضوح، وقبل أيام عاد الأردن وصوت إلى جانب دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إدانة روسيا بسبب ضمها للأقاليم الأوكرانية الأربعة (لوغانسك، ودونباس، وزاباروجا، وخيرسون)، ولم يتمكن الأردن من الامتناع عن التصويت إلى جانب الدول الممتنعة، ولو قبل الغرب بالتصويت السري في الجمعية العامة للأمم المتحدة لاختلفت النتيجة والتي بكل الأحوال ستقابل “بفيتو روسي صيني” مشترك، ولن تتراجع روسيا شبرا واحدا عن حدودها الجديدة بعد ضمها للأقاليم الأربعة الاوكرانية والتي دخلت السيادة الروسية، وتراهن إلى الامام على انهاء الحرب بفرض الامر الواقع على غرب اوكرانيا ودول (الناتو)، وهي قادرة على ذلك، وهو التصويت الاردني الذي انسحب على معاملة الدوائر الحكومية الروسية بسلبية مع الزائر الاردني، (رجل الاعمال، الطالب، وغير ذلك من الشرائح) خاصة خارج العاصمة موسكو.
وفي المقابل العلاقات الأردنية – الروسية راسخة ومتجذرة ومستقرة، وتاريخية، وهي متطورة، ويعود امتداد جذورها لعام 1963 عندما صافح مليكنا العظيم الراحل الحسين -طيب الله ثراه- الاتحاد السوفيتي في زمن الزعيم نيكيتا خرتشوف بهدف فتح علاقات دبلوماسية كفيلة بتحقيق فوائد متنوعة للبلدين الصديقين الاردن العربي والاتحاد السوفيتي وقتها في زمن سعير الحرب الباردة وشكّل الاردن ميزانا وسطها، وأعاق ادانة الاتحاد السوفييتي حينها في زمن حكومة مضر بدران بطلب من الولايات المتحدة الأمريكية بعد اسقاطه لطائرة أمريكية فوقه وهو ماورد في كتاب “القرار” لمضر بدران، وتطورت العلاقات السياحية، والتعليمية، والاقتصادية، والثقافية، وغيرها، وتم اردنيا استيعاب اليسار الشيوعي الاردني بدلا من الاصطدام معه، وشكل سليمان النابلسي، وهو الشيوعي المعروف، حكومة عام 1956. وشارك الحسين الراحل في زراعة شجرة الحياة في حديقة “ديندراره” في مدينة سوتشي البحرية على ضفاف البحر الأسود إلى جانب زعماء العالم، وزار موسكو وليننغراد.
وجدد جلالة الملك عبد الله الثاني في عهده الميمون مواصلة بناء العلاقات الأردنية الروسية وبرسم بياني متصاعد بدأت بزيارات ملكية متكررة منذ عام 2001 ولم تنقطع إلا في ظرف كورونا عام 2019، وفي فترة الحرب الروسية – الأوكرانية مع دول (الناتو) الغربية – بقيادة أمريكا، واتخذ الأردن موقفا محايدا من الحرب، وزيارات مكوكية متكررة لوزير خارجيتنا أيمن الصفدي إلى العاصمة موسكو ولقاءات مع سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا، ولقاءات مماثلة مع وزير خارجية أوكرانيا في وارسو بيترو كإليبا، ودعوات أردنية مستمرة من خلال أكثر من بيان للخارجية الأردنية تدعو الطرفين المتحاربين روسيا وأوكرانيا لضبط النفس وللذهاب للحوار والسلام، وأكثر من تصريح لجلالة الملك عبد الله الثاني تعترف بأهمية الدور الروسي في ضبط الحدود الأردنية – السورية خاصة بعد تفريغها والانشغال بالحرب الدائرة الروسية الأوكرانية والغرب أمريكية (الناتو)، وهو الذي حصل بعد ملاحظة عودة روسيا لمراقبة الحدود الأردنية- الروسية من جديد، وقول لجلالة الملك عبد الله الثاني تناقلته وسائل الإعلام مفاده بأن الرئيس بوتين وطني كبير ويعمل على رفعة بلده، وبأنه صديق لجلالته منذ عشرين عاما.
والعلاقات الأردنية- الروسية متطورة وحجم التبادل التجاري يصل حاليا إلى نصف مليار دولار، وهو رقم مرشح للتطور الإيجابي، وكنيسة روسية بنيت في منطقة المغطس على قطعة أرض قدمها جلالة الملك عبد الله الثاني للجانب الروسي لترسيخ العلاقات بين بلدينا، خاصة وأن منطقة المغطس حيث تعمد السيد المسيح -عليه السلام- اعترف بشرعيتها (الفاتيكان) بجوار نهر الأردن الخالد، وهو المكان المقدس الذي زاره الرئيس بوتين مرتين، وهو محتاج لتطوير الرقم السياحي الديني المسيحي الروسي والعالمي تجاهه، ولقربه من البحر الميت الفريد بملوحة مياهه عالميًا، وبسبب قربه أيضا من حمامات ماعين الساخنة وشلالاتها، والبحر الأحمر في العقبة ثغر الأردن الباسم، ومن منطقة وادي رم الخلابة، ولا تبعد كثيرا عن آثار مدينة جرش السياحية، ولا حتى عن آثار أم قيس وحمامات الشمال الساخنة وهضبة الجولان العربية السورية. واقبال كبير على دراسة اللغة الروسية في الجامعة الأردنية، والفنان الروسي “اوليغ بوغيدين” أصر على القدوم من مدينة “سانت بيتربورغ” ورغم ظرف حرب بلاده للعزف في عمان، وندوة يقودها المركز الثقافي الروسي بعمان برئاسة السيد “اليكسي بوكين” للتدرب على القتال اليدوي الموجه للأردنيين تحت اشراف المدرب الروسي “سيرجي ماتشولين”.