د.حسام العتوم
كل من شاهد العرض البحري والجوي العسكري الروسي المهيب في مدينة سانت بيتر بورغ الأكثر جمالا و حضارة وسط مدن روسيا الإتحادية وعلى مستوى العالم بتاريخ 25 تموز الجاري 2021 مباشرة أو عبر الإعلام الروسي (124 RT )، والذي هو سنوي بالمناسبة ويجري تحت رعاية الرئيس فلاديمير بوتين. وكل من سبق له أن شاهد بنفس الطريقة العرض العسكري الروسي، لكافة أسلحة الجيش الأحمر المهيب أيضا في الساحة الحمراء بتاريخ 9 أيار، وبشكل سنوي متكرر بمناسبة عيد النصر على الفاشية الألمانية. وكل من يشاهد الأفلام الروسية ذات الطابع الحربي والمتكررة أيضا، بالتزامن مع مناسبات الحروب الروسية ذات الطابع السوفيتي وما قبلها (الحربين العالميتين الأولى 1914 1918 و الثانية 1939 1945) وما بعدها، مثل الحرب مع جورجيا- أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008 ، لابد له أن يطرح سؤالا عريضا، هل يريد الروس الحرب فعلا؟!
إن من أوائل من أجابوا على هذا السؤال الهام والحساس في عمق التاريخ المعاصر عام 1961، هو كاتب الكلمات الوطنية والقومية والأممية (يفغيني يفتيشينكو) التي لحنها مارك بيرنيس وإدوارد كالمانوفسكي، والتي جاءت مدوية على الشكل التالي: “هل يريد الروس الحرب؟!. إسئلوا الهدوء. إسئلوا الجنود الذين ترقد أجسادهم تحت شجر الحور. إسئلو أبنائهم، هل يريد الروس الحرب؟! جنودنا لم يستشهدوا من أجل وطنهم فقط، بل من أجل أن يشاهد سكان الأرض أحلامهم، في نيويورك، في باريس، ويجيبوا: هل يريد الروس الحرب؟! نعم نحن نتقن الحرب لكننا لا نريد لجنودنا أن يتساقطوا فيها. إسئلو أمهاتكم وزوجاتكم، هل يريد الروس الحرب؟! وشخصيا،، أستطيع القول هنا بأن الفوبيا الروسية لاحقت روسيا في القرن الخامس عشر تماما، كما قال النائب الروسي (فيجيسلاف نيكانوف) رئيس صندوق ” روسكي-مير” في موسكو مؤخرا.
كما أن دخول روسيا لميدان الحرب العالمية الأولى عام 1914 كان سببه مهاجمة ألمانيا لها وليس العكس، واغتيال الأرشيدوق (فرانس فريديناند) المجري على يد الصرب البوسنيين، أشعل نيران الحرب وقتها. وألمانيا النازية الهتلرية في زمن (أودولف هتلر) 1940 1945، هي من هاجمت روسيا السوفيتية بعد بيلاروسيا، وليس العكس كما أشاعت ماكنة إعلام الغرب الأمريكي في أتون الحرب الباردة بعد هزيمة ألمانيا الهتلرية ذاتها وحلفها التوسعي الإحتلالي النازي، ودفع السوفييت فاتورة من الشهداء بلغت حوالي 27 مليون شهيد. وفي الحرب على جورجيا تحركت روسيا لإنقاذ أوسيتيا الجنوبية بعد مهاجمة جورجيا لها ولأبخازيا.
وفي قضية الجاسوس الروسي – البريطاني المزدوج – سكريبال- عام 2019، لم يثبت أي دليل على محاولة روسيا اغتياله. وفي قضية المعارض الروسي السجين (نافالني) لم يثبت على روسيا أي دليل لمحاولة اغتياله أيضا. وفي مسألة اتهام أمريكا لروسيا بتزوير الإنتخابات الأمريكية الرئاسية عامي 2016 و 2020، لم يتم إثبات أي دليل. ودعوة من قبل الرئيس بوتين لأمريكا ترمب للتقابل في المحكمة المختصة، وكتاب أبيض روسي جاء على شكل رسالة وجهها بوتين لبايدن عبر وزير خارجيته (سيرجي لافروف) لتثبيت النقاط المختلف عليها بين روسيا وأمريكا لكي لا تتكرر خاصة ما تعلق بالحرب الإلكترونية.
وإلى جنيف 2021 ذهبت روسيا بشجاعة لملاقاة أمريكا بايدن من زاوية الند للند والحقوق المتوازنة، ولإقناع أمريكا بضرورة العزوف عن الحرب الباردة، وهي التي قررت مغادرة أفغانستان طوعا بعد مطالبات طالبان لها ولتركيا بضرورة المغادرة. وتمكنت روسيا من محاربة الإرهاب في سوريا عام 2015 بجدارة، واستمرت بجهدها ذاك حتى الساعة. وطاردت روسيا الإرهاب الذي غزاها في عقر دارها ولاحقته إلى وسط سوريا وليبيا من جديد. وتعاونت مع دول العالم في تطويق جائحة كورونا، و تفوقت وتميزت في إنتاج لقاحها “سبوتنيك v ” على مستوى العالم، ونوعت أصنافه. ووقعت إتفاقية مع أمريكا بخصوص الصواريخ الباليستية لمدة خمس سنوات قادمة، بهدف امتصاص تشنجات الحرب الباردة . وتمسكت بإتفاقية إيران النووية (1+5)، وهو الذي أقنع أمريكا للعودة إليها بعد محاولتها تمزيقها. ولم تعتبر روسيا إيران يوما دولة عالمية خطيرة، ووقفت مثل أمريكا لمنعها امتلاك قنبلة نووية مهددة لأمن إسرائيل والمنطقة الشرق أوسطية والعالم.
وفي موضوع الملف الأوكراني بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا عام 1991، وتحديدا بعد انقلاب (كييف) العاصمة على الرئيس الأوكراني المخلوع (فيكتور يونوكوفيج) الموالي لروسيا عام 2014، وبعد إدارة أوكرانيا (باراشينكا وزيلينسكي) ومعهما التيار البنديري المتطرف لظهرهم لروسيا، لرغبتهم من الاقتراب من حلف الناتو العسكري الغربي الأمريكي، وتقريب القواعد العسكرية الأمريكية إلى داخل غرب أوكرانيا رغم مخالفة الدستور الأوكراني بهذا الخصوص، وللإقتراب من الاتحاد الأوروبي ومن أوروبا، بحثا عن اقتصاد جديد وسياسية جديدة بعيدة عن العمق السوفيتي والعلاقة مع روسيا الاتحادية المعاصرة، قررت موسكو عبر قصرها الرئاسي (الكرملين) تغيير سكة التعامل مع كييف (24) درجة من خلال سحب البساط الأوكراني من تحت إقليم (القرم)، والعودة به إلى عرينه التاريخي الروسي رغم مكوثه 60 عاما في العهدة الأوكرانية وفقا لقرار سوفيتي تقدمة الزعيم (نيكيتا خرتشوف) عام 1954، بحثا عن ممر مائي وقتها. وإعادة روسيا للقرم جرت عبر صناديق اقتراع الأقليم وبنسبة وصلت الى 95% من نسبة المقترعين، وأبقت موسكو الباب مفتوحا أمام الأوكرانيين للعيش إلى جانب الروس والتتار في الإقليم (58% روس ، 24% أوكران ، 12،10% تتار، وغيرهم)، والتزمت موسكو بإتفاقية (مينسك 2015) لضبط الأمن الأوكراني والعلاقة مع روسيا الجارة التاريخية لأوكرانيا، وللمحافظة على علاقات اجتماعية أخوية طيبة مع الأوكران، ودعوة من قبل الرئيس بوتين للرئيس زيلينسكي لزيارة موسكو ومحاورتها في العلاقة مع روسيا فقط ، والإبقاء على طاولة الحوار الأوكرانية مع الدونباس شرقا مفتوحة، لكن الرئيس زيلينسكي كما يبدو ومن خلفه التيار البنديري يعملون من أجل إفشال أية علاقة مع موسكو، وهو الذي يجري، وهو ما لفت الانتباه له الرئيس بوتين بنفسه عندما صرح مؤخرا بعدم وجود جدوى للحديث مع (كييف) الحالية.
وفي حادثة البارجة البريطانية المرافقة لبوارج تابعة لحلف الناتو وغيرها الأوكرانية هذا العام 2021 في المياه الروسية في عمق مياه إقليم القرم، تعاملت روسيا مع الحادثة وفقا لقواعد القانون الدولي ولم تعمل على تسخينها لدرجة الصدام، وهو الذي لو حدث، ما كان من الممكن أن يقود لحرب عالمية ثالثة، حسب قول لبوتين. بسبب أن مثل هكذا حرب، لن تكون رابحة لأي طرف.
وحري بي هنا، أن ألفت الانتباه بأن روسيا السوفيتية صنعت قنبلتها النووية عام 1949، لتمنع حدوث حرب عالمية ثالثة مدمرة للبشرية وللحضارات، وحتى الآن تصر روسيا على التمسك بالقانون الدولي، وبعدم التطاول على سيادة أي دولة عالمية، ولديها قدرات عسكرية تقليدية وغير تقليدية نووة تعادل حلف الناتو مجتمعا، وربما تتفوق عليه نوعا في مجال تكنولوجيا الفضاء، لكنها تبحث عن السلام والتنمية الشاملة دائما لها ولكل العالم، وأرقام التبادل التجاري مع العالم خير دليل. وقمة جنيف 2021 استدلت الستارة عن حقبة ساخنة من الحرب الباردة، ومراهنة دولية على البدء بفتح صفحة جديدة بين الغرب الأمريكي والشرق الروسي – الصيني وبكامل عمقه لما فيه كل الخير للبشرية جمعاء. ولدي قناعة شخصية بأن روسيا بوتين لن تقدم على أي عمل إلكتروني من شأنه أن يعبث بأمن انتخابات الكونغرس الأمريكي عام 2022 كما بدأت مبكرا تروج له أمريكا بايدن، وما بعد جنيف 2021 ليس كما قبلها ، وما عدا ذلك تجديد للرهاب الروسي غير المبرر.