د.آمال الجبور
لم تمر ساعات على سقوط نظام الاسد على يد المعارضة السورية ممثلة بـ”هيئة تحرير الشام” حتى فاضت الهواجس الحبيسة من العقل العربي المثقل بثقافة المؤامرة والتخوين داخل نخبه وخارجها، فكل شيء يحدث لنا مخطط له، لكن الواقع الذي نعيشه يشير الى حقيقة لا نريد الالتفات لها، وهي ان الدول المهيمنة على القرار السياسي العالمي تراقب وتوظف الاحداث بما يتوافق ومصالحها وتتأقلم مع التغيير بسرعة وتبادر الى تنفيذ اجراءات تتوافق واهدافها، وبينما توظف التغيير لصالحها، يبدو لنا كل شيء مخططا له، وهذه الفكرة ربما تطابق التحركات الاسرائيلية نحو هضبة الجولان ومحيطها في الساعات الاولى من سقوط الاسد!.
لن نفترض في هذا المقال اي مؤامرة او تخوين، بقدر ما سنركز على لاعبين جدد في المشهد السوري يحسب لهم انجاز ثورتهم بعيدا عن العنف والدموية، فالشعب السوري وبعد معاناة استمرت 54 عاما يقف على اعتاب مرحل جديدة من التحول في بنيته السياسية، يدير دفتها مجموعة من المعارضة السورية، عنوانها السياسي والعسكري” هيئة تحرير الشام” الذين نشأوا منذ نعومة اظافرهم تحت عباءة جماعات جهادية متشددة ابتداء من “تنظيم القاعدة” لتأخذهم مراجعاتهم الفكرية صوب انفصالات تتوافق مع قناعات جديدة يتسم طابعها بالسياسي لا الجهادي،مشكلين على ما يبدو بعد عقد من الزمن جيلا ثالثا بابعاد وطنية أفرزتها “النصرة” مرورا بـ”احرار الشام “وصولا لـ”هيئة تحرير الشام” التي تدير المشهد السياسي الانتقالي في سوريا اليوم، مقدمة نموذجا جديدا ومختلفا عن ايدولوجيا الجماعات الاسلامية الجهادية المتشددة، ما أثار تساؤلات مشروعة حول تأثير هذه القيادة التي انتجتها تفاعلات ايدولوجية وفكرية وسياسية متعددة الانتماءات، في مستقبل سوريا والجوار، ما دفع مسؤول أمريكي الى التصريح في اليوم الاول للثورة ” ينبغي التعامل بذكاء مع هيئة تحرير الشام التي نرى أنها قامت أخيرًا بأشياء صحيحة” وأسقطت نظام الرئيس السوري بشار الأسد في غضون 11يوما.
طريق التحول السياسي إلى سوريا الجديدة كونها نقطة ارتكاز الشرق الاوسط، بقيادة “الجيل الثالث”مليء بالمخاوف والمجهول حول الشكل غير الواضح للسلطة القادمة في سوريا التي تتداخل فيه الفواعل الدولية والاقليمة من جانب، ووصول مجموعات المعارضة السورية ذات الانتماءات الايدولوجية المتشددة السابقة ممثلة بـ”هيئة تحريرالشام” الى ادارة الحكومة الانتقالية، تتطلب الحذر والجدية في قراءة المشهد السوري الراهن من جانبه الثاني كمحاولة للفهم، نورد بعض جوانبه:
اولا : على مستوى البنية الفكرية.
تحمل”هيئة تحرير الشام” بنية سياسية وايدولوجيةعقائدية، فهي من جانب امتداد لانتفاضات الربيع العربي، شئنا ام ابينا، وليس اي شيء آخر،هذا الربيع الممتد بالتاريخ والمثقل بمشاعرالفقر والجوع والغضب،ومعاناة الناس يحملها التاريخ الى الامام لا الخلف حسب المنهج التاريخاني.
ومن جهة اخرى،فان قيادات المعارضة الحالية حملت منذ تكوينها الاولي ثقافة التنظيمات الجهادية المتشددة كـ” تنظيم القاعدة” ثم تجاوزتها بمراجعات فكرية معتدلة، خلقت انقسامات بين صفوفها وأفرزت هيئات وفصائل جديدة مرتبطة بالتحول والنضج الفكري والمصالح الوطنية لا المذهبية العقائدية، وهوما اكده أحمد الشرع قبل ايام لاحدى القنوات السورية بقوله “الوضع الان يتطلب التحول من العقلية الثورية الى عقلية الدولة” وهذا ما عكسته المعارضة في سلوكها البرغماتي في ادارة المشهد السوري باسقاط النظام بعيدا عن العقل الدموي والفوضوي،ما يدعو الى السؤال حول مدى درجة الثبات والاستمرار لهذه العقلية نحو الدولة ومؤسساتها والمفاهيم المدنية والحقوقية وعدم عودتها الى الوراء؟ .
ثانياً: الخطاب الاعلامي.
حاولت الهيئة وقياداتها تقديم نفسها بصورة مغايرة للصورة التقليدية للتنظيمات الجهادية السلفية، مركزة على خطاب يتناغم بين العمل السياسي والفكري والوطني في بناء الدولة السورية الجديدة بمكوناته المختلفة، المتصالحة مع نفسها ومع الجوار والمجتمع الدولي، فابتعدت عن اللغة الجهادية ومفاهيمها المتشددة، في استحضار الماضي وبطولاته وملاحمه ضد الصليبين والغرب الكافر، وظهرت قياداته بصورة تتسق مع واقعه المعولم من خلال شكل هندامه مع الاحتفاظ بنموذج “المجاهد الاسلامي الملتحي” وقدمت قائد عملية “ردع العدوان” باسم احمد الشرع، بدلا من الجولاني مبتعدة بذلك عن الالقاب الجهادية التي عرفت بها عقلية التنظيمات الجهادية المتشددة.